البياضــة

تصعد إلى الجبل باسمة للربيع، تداعب الريح شعرها بحرية، يتمايل...‏

-مساء الخير.‏

تقولها بغنج، وتسرع إلى درس المساء تاركة الضأن ترعى قريبة مني، هذه حورية السمراء، ظبية ((المهد)) التي حدثتني عن حياتها الماضية: كانت تخرج من البيت تسوق الماعز إلى الوادي، تركض على الجبل كالغزالة، تناجي الصخر ليطعم الماعز بعض العشب، وتصرخ بالماعز الشارد في أعالي الصخور، ترجم الحجارة.. ترتد إلى عمق الوادي السحيق مصدرة ضجة تتلاشى في كف الصمت، تتخيلها حورية ضحكات الرجال في مجلس العاقل وهم يرقدون باسترخاء، يجترون القات الأخضر الطري الذي يحضره الأولاد في أكياس القنب، يرمون لهذا.. ولهؤلاء من قرية ((القشبة)).. ولذاك من قرية ((رهن)) يثرثر بلسانه، فيضفي الدهشة على الحاضرين. كانت تراقبهم من وراء النافذة، وتسمع والدها يقول بمزاجية:‏

-البنات خلقن لقطع الحطب من الجبل والرعي لا للجلوس في الفصول.‏

وتقول لنفسها ((يا خسارة العلم يا حورية)) وكانت حورية تريد الحق وليس الظلم ابن عمه في الحياة، فجاءت إلي مصممة على التعلم وبإشراف المعلمة التي وافقت بلا مقابل لتأدية واجب الخير، وصارت حورية.. تروح.. تتأبط البياضة.. تدخل.. تخرج.. ويراقبها شباب القرية ويظنون بها السوء، صعدت شاة على صخرة مشرفة على انكسار الوادي.. خفت أن تسقط.. وتجر حورية إلى مأزق في البيت، رجمتها بحجر فلاذت بالفرار إلى عرض الجبل الواسع، أمسكت ريشة الألوان، كانت سحلية تزحف على غصن شجرة، تمد لسانها وكأنها تسخر مني.‏

-((ستهرب السحلية يا أستاذ.. ألا تستطيع رسم أصغر مخلوقات الله؟!.. ارسم مريم المقبول القادمة إليك..)) ضحكت من مناجاة نفسي وتابعت:‏

-((سأرسم مريم المقبول قبل أن يفوتني قطار‏

الذهول...)).‏

رسمت المعالم الخارجية والداخلية بكسل.. وقفت مريم تحدق إلي.. سلمت عليّ، لم أردّ على السلام.. قالت بعتاب:‏

-((لماذا لا ترد على السلام؟)) وصفقت بيدها لجذب انتباهي نحوها، تجاهلت ذلك في لحظة إبداع وسألت:‏

-أين حورية؟!‏

كانت مريم غابة من العظام مكسوة بالجلد المترهل، تلبس ثوب قطيفة رقعته بقماش جديد في أماكن كثيرة.. قارنت بين صورتها وصورة شقيقها أحمد المقبول الذي يزور المعهد كل يوم ولا أدري ما السبب!..‏

((شيخ عشيرة ولا كل الشيوخ يا ريمة يا بنت الجبال!..)) يتسلى بأكل اللب وينشر قشره على التراب، يمسد شاربه بكبرياء.‏

-عم مقبول فحل المهد يا أستاذ!!‏

همس علي السكني مرة لي، وأمرته بالصمت، صاحت مريم بتذمر:‏

-أين شردت؟!.. التفت إليها قائلاً:‏

-لا شيء يا أختي العزيزة وراحت تعترف بمرارة:‏

-((لأول مرة أسمعها رقيقة تداوي الجروح.. يصرخون بي: احضري الحطب يا مريم. خذي الضأن والبقرات إلى الوادي هيا.. هيا يا مربوشة العقل.. أبلع الإهانة كالسم.. وأجوع آخر الليل.. لا يوجد من المرق واللحم شيئاً.. أكلوه قبل عودتي من الجبل.. وأنام على الفراش جائعة.. أنا الشيبة التي لا يشتهيها حتى الأعور ابن الحنك..)) قلت مخففاً عنها دوامة الحزن:‏

-أنت بركة بيت المقبول..‏

-اسكت يا شيخ تجابرني بحب.. ويشتمني أخي مقبول.. يريد سيقان شجرة يصعد عليها بقطع النفس، لا تكفيه سيقان وردة الناجي أم الصبيان البرصة... ضحكت.. وضحكت لمزاجها الخفيف، وشعرت أن للأمل نافذة في حياة التعساء.. تغلق، تفتح على حين غرة.. قالت مريم:‏

-يا أستاذ محمد أين حورية؟‏

-تحضر الدرس في بيتنا.‏

-سيضربونها إذا عرفوا!‏

-لماذا لا يضربون ذوات السعم في الجبال، ويطلقون الرصاص، بعد المرضية بين العشائر.. يجترون القات فدية الحرام والعار؟.. مظاهر كذابة!!..‏

أحست مريم بسنابك الغضب تدهس وعيها في كلماتي الجامحة.. رسمتها على البياضة ترفع حزمة أعواد الذرة علفاً للبقرات بذراعيها القويين، تبتسم بأمان.. وكانت عابسة في الواقع أمامي.. دنت مني، شهقت ضاربة صدرها بيدها البارزة العظام:‏

-رسمتني يا أستاذ.. ستفضحني البياضة في القرية..‏

هززت رأسي بنفي، واستدرنا إلى الوراء حال سماعنا صوتاً:‏

-ها يا مريم عجبك الأستاذ تزوجيه.‏

-خارجني(1) على البياضة(2).‏

دهشت للعبارة اليمنية الغريبة!.. وسارت وراء البقرات بعيداً، وظلت حورية واقفة معي، تحكي لي قصة البياضة ومريم المطلقة.. وكيف أجبر مقبول زوجها على مخارجتها بالقوة.. وغادر القرية حزيناً.. توارى.. وبقيت هي شجرة بلا ثمار ضربت حورية الأرض بقدميها وصاحت بانتصار:‏

-نجحت البياضة كلها.. وأصبحت أقرأ وأحسب غلطات عمري بحسرة..‏

فرحت، وقفزت راقصة في الهواء، ثم هرعت إلى الضأن تجمعها في طريق العودة إلى القرية وهي تهتف: نجحت البياضة.‏

وثمة بياضة في يدي كانت مريم تبتسم بها كابتسامة حورية التي لا تعرف العذاب بعد اليوم.‏

(1) البياضة : دفتر الكتابة الأبيض.‏

(2) خارجني : طلقني وهي من الطلاق. وهي من اللهجة اليمنية المحلية.‏