تمرین
"وماذا يمكن أن تفعل إذا لم توافق عائلتك عليّ ،أنا التي ليس لي من المؤهلات ما يؤهل مثلي لمثلك"،قالت البنت للمرآة وهي تتدرب على كشف المستور،والهاتف الأثرى المشروخ من مكانين، يوشك أن يقفز من مكانه لشّدة ما صاح وبرق واستجدى أن تلفت إليه دون أن يحظى بنظرة عابرة مشفقة أو غير مشفقه والبنت منزوعة تماما عما حولها مثل زهرة فى شق إسمنت،وأمها فى الغرفة الأخرى تحاول تدوير ثياب إخوتها الستة فى حيرة تتنافس وشبه يأس يعبث بأظافر الوقت ، وإعادة توزيعها عليهم فى الهواء حسب الإمتلاء والطول، مع دخول موجة البرد وجائحة الإنفلونزا،وإخوتها بعيدون مثل كلاب ضاله،تفرقوا ببلادة يخوضون فى الشوارع الآسنه التي تنبعث منها روائح المجاري المدلوقة بلا اكتراث،وبلا أحلام كبيرة يلاحقون كرة إنفرجت أساريرها وتراخت عن ثقوب بحجم ما تصنع إبر دقيقه، أو يحطمون بنزق يفتقر للحماس نوافذ مبان مهجورة و يعابثون أكشاك مصلحة الهواتف المزروعة ببسالة فى ريح نتنة وقد أكل عليها دهر عاثر و ربما شرب أو أحد الإحتمالين. وقد يكون من الممكن أن يطاردوا قطيعا عابرا من الأغنام يقطع الطريق الترابي الواسع يتعلقون بذيول أو يتجرأون على ضروع مليئة بالحليب فى غفلة ممن يسوقها فى العصر ،وربما كان أكبرهم قد فكر أن يلاحق كلبا أو قطة أو ولدا يصغره ، يستأسد عليه ويلكمه في نهاية الأمر ويدميه لمجرد أن يثبت لأحد ما، يصادف مروره فى تلك اللحظة أن بإمكانه أن يفعل ذلك ودون حرج من حجمه أو حجم خصمه.وراحت تتلوى أمام المرآة بغنج ساذج ومكشوف لتردد بصوت مفرط الأنوثه: وماذا لو عرفت عائلتك أن أبي توفى دون أن يترك لنا ما يطفأ جمر الظهيرة أ ويزيح رماد الليل، ولا حتى البيت الذي نعيش فيه، هل ستقبل أن أجلب معي بؤسي ؟،وماذا لو اكتشفت أنني بلا أصل ولا فصل تتفاخر به أمام الناس،قالت البنت وهي تطرق بانكسار وألم يعض على رغبة جارحة في البكاء وأمها في الغرفة الأخرى تقسّم في الهواء نقودا وهمية على البقّال وصاحب البيت وثلاثة دائنين ومؤونة الشهر،والهاتف يستجدي بزعيق حاد متوتر يضرب مباشرة في الرأس و يتلف العصب الحائر المتجه تلك اللحظة بقوة إلى الإمعاء،والبنت ترق مثل وردة نديّه وتستعطف فى وقفتها البائسة وقد بدأت في خلع ابتسامتها قرب الجدار الكالح المليء بالندوب الذي تلتصق به المرآة التي ليست في صفاء بشرتها،وطعنتها فى الفؤاد حقيقة أنها تعمل في صالون نسائي بعيد ومقفر أغلب الوقت وليس فى شركة مستحضرات تجميل كما ادّعت أول الأمر،وأنَّ ما تدخل به محزونة على البيت- والذي لا يسّد الحاجة إلى نصف الشهر،- ضروري ومهّم لبقاء السقف في مكانه والهاتف في الرنين، وأنها لن تفرط فيه لو حدث أن كانت من نصيبه وحظها السعيد،وأمها في الغرفة الأخرى ترتق جوارب ملأتها الثقوب فى صمت تقطعه تنهيده عابرة لدقائق الإنتظار وهموم التدبير، وما قذفت به الليالي،والأولاد الضائعون في ريح المساء الباردة لم يحسبوا حساب الشمس التى تسللت إلى بيتها في غفلة منهم، فبدأوا يبحثون عن بعضهم فى الأزقة الضيقة التى يعرفون والحواري المجاورة التي يجهلون،والبنت تُقسم للمرآة أنها تحبه ولكن ماذا لو لم يتمكن من إقناع عائلته بأن الفقر ليس مسألة فاصله ولا حتى السند إو إسم العائلة الرنّان وماذا لو علم أنها تحشو قميصها بالمناديل الورقية أيضا،ليبدو صدرها جائرا أكثر من اللازم،وهي تقطع الطريق ركضا دائما إلى الجهة الأخرى،وأحد الأولاد لم يعثر له إخوته على أثر وهم يبحثون في مقالب النفايات وحول أنقاض البيوت المهدمة يمين الطريق الترابي الذي دخل ضباب المساء ويساره، والهاتف الذي يشبه طابوقة ضخمه يصر على موقفه الثابت فيرتعش ويوشك على القفز وصوته يرتفع ويثقب أذنها اليسرى فتدخل في الطنين والفراغ ،حائرة تتلوى البنت وتتأوه وتصر: ولكني أحبك وأعلم أنك تحبني وأن الفقر والغنى شكليات فظَّّة والعلم والنكرة والوجاهة واللاشيء لن تقف في طريقنا،وتكاد تذوب مثل شمعة عيد ميلاد صغيرة ملّونه وتفكر ماذا لو عرفت أن غيرك قد تقدم لي وأنا احبك منذ عام وأني رفضت، وماذا لو أني خالفت حاجتي وفرّطت في طاعة أمي وعوز إخوتي وانتظرتك تقنع أهلك: هل ستتمكن من تحقيق حلمي الصغير ،بيأس قالتها واستسلام وشعور أكبر من ذنب إخفائها الفقر و الإحتياج عنه، يتسلقها ويتحول إلى إثم ينشر عباءته الضبابية الخشنة في سماء الغرفة وأمها تقلق على الأولاد الذين تأخروا كثيرا فتسمع صوت نعالها القلق يحك تجعيدات الإسمنت المكشوف البارد،المتجه بالتواء إلى النافذة الوحيدة الصغيرة المطلّة على عُري الطريق الترابي الذي سقط في حضن الليل الباهت، والأولاد ما يزالون يثيرون فوضى تتقاذف خطاهم وهم يبحثون عن سادسهم خلف أنقاض المباني المهملة منذ سنتين وقد تسرب خوف هائل لصدورهم التي تحتشد بالبلغم ويفاجئها السعال، والبنت بدأت تتوتر من صوت الهاتف الذي صار يشقق الهواء عندما وصلت إلى ماذا يمكن أن يحدث لو أنها تزوجت غير حبيبها الذي اقتحم قلبها همسا دافئا في الآذان، قالت للمرآة التي بدت الآن غير متعاطفة مع شحوبها والظلام الذي تغلغل في صقيع الغرفة وقد قل نشاطها وخفت حدة حماسها وفرغت سلّتها تماما من حجج جديدة وتساؤلات، و خطوات أمها تطرق الإسمنت إلى النافذة وتعود إلى المطبخ تتفقد طعاما لا يكفى كل الأفواه ثم تعود أدراجها والبنت خفت صوتها ، وبدأت ترتعش من البرد الذي قفز بتوحش غريب وذي أنياب، والهاتف الذي بدأ صوته يقترب من صافرة سيارة إسعاف ضائعة في حارة شعبية نسيها الوقت وأولي الأمر، ثم أنها سمعت فجأة مزاح الأولاد وشتائمهم يدفعون بعضهم بعضا، فى سماجة المساء الكئيب وغضب الأم المفتعل،و التي اندفعت تضربهم على أقفيتهم وأين ما وقعت يدها واحد واحدا دون أن تخطيء العد وقلبها يفّر إلى السعاده،دون أن تفكر بأنهم تأخروا أو كسروا قاعدةً، أو مصباح شارع عام أو كشك هاتف أو حتى زجاج النافذة الوحيدة للبيت الآيل للسقوط منذ زمن بعيد أو ماذا سيأكلون غدا، والبنت غرقت تغطس في الظلام والبرد والكآبة وتتكوم ببطء مثل غزالة جريحة وظهرها الدافيء ينزلق عن الحائط الثلجي الذي استندت إليه، وصافرة عربة الإسعاف الضائعة تدخل في العويل ثم تنطفأ، دون أن تصل للرجل الذي كانت تحادثه البنت في المرآة وهو يحاول الإتّصال بها طول الوقت دون أن ترد على هاتفه، الذي تدري أنه هاتفه، والذي شرق بإلحاحه، ثم أنه فى هجمة الوساوس سقط ممسكا صدره يحاول أن يستنفر القليل من أسباب البقاء والبنت إقشعرت و صمتت أمام المرآة فجأة في الظلام، وتكومت على الأرض ترتجف وقد هجم عليها احتمال أن يكون قد رآها تنزل من المقعد الخلفي لتلك السيارة الفارهة أمس،والتي تريد نسيان سبب صعودها إليها،ما دامت على قيد الحياة.
