رسائل لم تصل إلى أصحابها
رسائل لم تصل إلى أصحابها كتبت لـه لست أنت ولا أنا من يجيد تجميل الحقيقة، ويتقن لعبة التحايل على الزمن بريشة الوهم والسخرية، وصبغة اللامبالاة، ومساحيق التزيين. لست أنت ولا أنا من يمتلك سلاحاً، يغتال به الحزن المتدفق من فوهة الفجر، ويقطف نجوم الفرح من بين صرخة الأوجاع. لست أنت ولا أنا من يشفي الجراح النازفة، برقصة تعبيريّة ينحني لـها شيطان الهزائم والعثرات، لست أنت ولا أنا، من يغنّي التراتيل الساذجة، ويقرع أجراس النسيان، في محاولة يائسة، لإغواء القدر وإغرائه. كلانا عاجز عن إدراك مساحة وجوده، وطاقته، وكينونته، كلانا عاجز عن سماع صدى صوته، وأنين آهاته، وعبثّية أحلامه. نحن معاً، في قارورة الانتظار، نتنفس رياح السموم، من آخر ثقب من ثقوب الحياة. كلانا روح لا تدري مقرّها، ومستقرّها، منبعها، ومصبّها، شقوتها وصحوتها، كلانا روح تنمو على طحالب الزمن، بلا هدف ولا غاية ولا مصير. نحن يا رفيق الروح، نشقى معاً بأوجاع الصبر، نحترق بأوراق النسيان، وحروف الفجيعة، وصمت الكبرياء، نحن وجه الحقيقة التي لا يراها سوانا، وصورة الهزيمة، وواحة الزفرات، نحن شهقة المستقبل العاجز عن إيوائنا. نحن ليلة عربدت فيها خمرة الدهر، تناولتها الوعود الهادرة، وتلاعبت في ثناياها أنياب القدر وسكراته. نحن لا ندري متى نفترق، ومتى نحترق، ومتى تهاجمنا شياطين الرعب، وتقذف بنا إلى فوهة التراب، وحنجرة القبر. نحن لا ندري متى يقتحم المجهول الأرعن خلوتنا، ومتى نصير رماداً، وكيف نلتقي تراباً، وتتعانق أرواحنا الثكلى عناق غريق لغريق!!. يوم دعوتني من عزلتي الساكنة بالأوجاع، من شرفة الانهيار، من سرير الأشواك، لملمت تاريخي، وطرتُ إليك، قابلتك بأجنحة مقصوصة، وملامح مبتورة، ودموع تسيل من مخزون الآهات، وقرأتَ في مقلتي شلاّل الضياع، وبراكين الألم، وأكوام الهموم. عانقتني بشال قرمزي من الوعود، توّجتني مليكة على عرش عائم تحيطه السدود، أسكنتني في معبد الخلود، أنسيتني بثور الأيام، وشرخ الليالي، وفجوة الانتظار. سالت كلماتك في حمم الصمت والشرود، تجمدّت في الفراغ، فقد استعصت أوجاعي على أدويتك، فقاسمتني التمزّق، والسقم والبلاء، ضحكنا معاً، وضحكت لنا دموع الخيبة، ومرارة المصير. تلوّنت السماء الثلجيّة بألوان قوس قزح، ورسم الأفق لوحة فسيفسائية، تألقت فيها واحات الفرح وجزر الآمال، أوشكنا اقتحام الأبواب المغلقة، وأوشكنا أن نصدّق أن في القارّة السوداء، تنمو أزهار الياسمين. لكن الدنيا وذاك طبعها، تغتال ببراعة نواة الفرح، وبراعم الأمان، وتصحو بعد غيبوبة حمقاء، مثل أفعى مشوّهة، تلدغنا في وريد الحياة!!. وكتب لـها يا توأم الذات والخلود، يا رفيقة الوجود واللا وجود، يا حبيبة انتظرت لقياها منذ آلاف العصور، ورددت اسمها مع كل زفرة أو نسمة حملت من القلب شهقة، يا حبيبة منذ أن خلق الله الأرض، ودعانا إلى وليمتها. رأيتك يوم ذابت شمعة حياتي، وأوشكتُ أن أودّع دهري، يوم كنت أشكو زمني ظلم زمني، مثلما تشكو أوراق الخريف زوبعة الرياح. قابلتك وأنا بقايا إنسان، تضخّم الألم في شرايينه، مزقّته الأوجاع إرباً، وغدر به الزمان، منذ أن كان جنيناً في رحم أمه. رأيتك في حجرة الرعب، تتجرّعين سموم الشفاء، ترددّين أسماء الله الحسنى، تنصهرين بمفاصل اليأس. أمطرت عيناي حزناً عليك، ووددت لو أنني أقهر قوانين الطبيعة وأمزّق دفاتر الوجود، وأسحق صوت الرعود، وأحرق عناوين الموت. وددتُ لو أن يدي، تلامس أناملك الشفافة، ولو أنني أحملك بين ذارعيّ، لأروي ظمأ السنين الجافة، وددتُ لو أن أقداري تمهلني، لأقدّم نفسي قرباناً لظلّ الموت، وددتُ يا منية الروح لو أن الزمان ينصفنا، فيرضى بالادعاء، ويقبل منا عريضة موقّعة ببصمة حبنا، تطالبه بل ترجوه الاستئناف. ترانا نمتلك بضع الساعة؛ لنقول ما قالوه خلال قرن أو دهر!!. ترانا نمتلك زمناً تتبدّل فيه إرادة السماء، فتحنو نادمة، على من قيدّتهما بأصفاد الرحيل، ومزقت شظاياها ربيع أحلامهما. نسأل من؟ نعاتب من؟ نقسو على من؟ ونحن نمضي بلا وجهة، ولا غاية، ولا مصير. تنصهر أحاسيسنا، تتآكل عظامنا، تحترق قلوبنا، والأحشاء تتمزّق على مواقد الألم، في انتظار أبواب النهاية والعدم. فإذا ما عشت بعدي، فاذكري أن من قطع الوصل بيننا، لابدّ أن يجمعنا، في مكان ما، يقال أن اسمه "حجرات الانتظار". قرأت الممرضة الرسالتين، في الحجرتين المتجاورتين، وصرخت بملء فيها، تدعو الطبيب المناوب، فقد استسلم كلاهما، وفي ذات اللحظة، لكن أحدهما لم يقرأ ما كتبه الآخر، إلا بعد الرحيل، وفي حجرة الانتظار. انتهت |