الفصل الثالث
خلال الأيام الأخيرة التي سبقت مباشرة اليوم المشهود الذي سيتردد طويلاً على ألسنة أهل قرية عين الفكرون، مكّوناً اهتماماً أساسياً ومجالاً ثرياً لتكسير الرتابة المخيمة، هذه الرتابة التي أغرقت الجميع في شبه اكتئاب وتدهور نفسي حتَّى ارتفعت، صيّرت حركاتهم ثقيلة غير مبالية، وارتفعت الحرارة ارتفاعاً جنونياً انقطعت الأمطار القليلة والرياح النادرة في منتصف فصل الربيع، مما أسرع في تحويل اللون الأخضر إلى الأصفر الشاحب وانقراض الحشائش القزمة المتشبثة بالتراب في هيئة ذابلة هرمه، وسرعان ما ظهرت الحشرات النحيفة المتعطشة إلى الغذاء، أنواع الناموس بكل أحجامها حتى نوع الهليكوبتر، والذباب والفئران وبنات وردان أو "القَرْلَلّو" مثلما يطلق عليه أهل القرية، وعشرات الحشرات الأخرى الجريئة التي اقتحمت البيوت، خاصة المطابخ والحدائق ومخازن التموين، مما أجبر الناس على البحث عن المبيدات المضادة في كل المحلات التجارية التابعة للقطاع العام والخاص، للتصدي للغزاة الذين لا يبدو أنهم تناقصوا رغم الكميات الهائلة من السائل ذي الرائحة الكريهة، فوقع الناس في "حيص بيص" يتأرجحون طول الوقت بالليل خاصة بين إغلاق النوافذ والأبواب وأحكام الشرفات بأنواع من الباش السميك وسد كل ثقوب التهوية التي تتسرب منها الحشرات وتحمل الرائحة الكريهة الممزوجة بارتفاع الحرارة وتلألإ الجسم بحبات العرق وبين فتحها على مصراعيها لاستقبال النسمات الباردة ومعها هجوم الناموس باللدغات والامتصاصات التي تبعد النوم نهائياً وتزرع الدماميل المهيجة، ومما زاد الأمر خطورة وتعقيداً اختفاء سائل المبيد فجأة من الأسواق فعرف أهل القرية وظيفة أخرى شاقة وهي البحث الدؤوب عن المبيدات في كل مكان سمعوا بوجودها فيها. اختفت أياماً، فارتفعت الشائعات المعقولة واللامعقولة، ثم بدأ يظهر في السوق وبأثمان تفوق السعر العادي من ثلاث إلى عشر مرات، عند بعض التجار المؤقتين الذي يعرضون السلعة المفقودة على أرصفة الطرقات مطمئنين غير خائفين من جهاز الرقابة الموسمي الذي لا يراه التجار إلا مرة واحدة في الحول، يمر مرور الكرام في جولة سياحية ينتفع أعضاؤه لنفسهم دون الإكتراث بالطوابير اللامتناهية على أبواب المحلات الحكومية ذات المساحة الكبرى، المشيدة في سرعة مذهلة على طرف المدن والقرى، حيث يبيت الزبائن الدائمون الليلة متحاشرين ينتظرون الافتتاح للركض تجاه بسط البضائع مع كل ما تتخلل المطاردة من مشادات كلامية وجسدية وتكسير زجاج الواجهات الخارجية للمحل.
إذن منح ذلك اليوم مجالات واسعة لقضاء الوقت والانشغال بتلك الحكايات القديمة التي حفظها الكل عن ظهر قلب إلى درجة القرف من سماعها مرة أخرى.
تحرك السرجان خلال تلك الأيام التي لم يخطر على باله بأنها الأيام الأخيرة في حياته ولو سمعها من أحد... وإن كانت الدرويشة لاّلة عويشة البوسعادية.. لا نطلق في ضحكة هستيرية مجلجلة بصداها الرجعي البعيد لساعات كاملة، إذ لم يتصور الموت وفي هذه الأيام بالذات وهو يلهث وراء كيفية يتحصل بواسطتها على بطاقة النضال أيام الثورة، متصلاً بكل معارفه المتفرعين إلى غاية العاصمة، بطاقة مزيّنة بالخط الثلاثي وعلى طرفها الأيمن صورته الشمسية انتقاها من بين مجموعة صور يظهر فيها شاباً أنيقاً ووسيماً، بدون شعرة شيب واحدة. يكون قد التقطها منذ سنوات واحتفظ بها لمثل هذه المناسبة العظيمة، فيغلف البطاقة في إطار زجاجي يصنع لها خصيصاً عند أحسن الحرفيين، وإذا اتقضى الأمر سيسافر إلى فرنسا ليبحث لها عن إطار ملائم في أروع وأفخم وأغلى المحلات . وسيدفع مقابلها رنكات أو دولارات خضراء مخرخشة . ثم يعلقها على جدار داخل مكتبة الخاص وراء ظهره كي يراها كل زواره، لم يكن يخطر على باله أبداً أنه سيفارق الدنيا دون أن تمنح له هذه البطاقة التي تبدو في نظره سحرية، بل لم يكن يشوبه شك في أن خصمه اللدود لا يمتنع طويلاً عن الامضاء بل سيرضخ بعد مدة قصيرة وسيوقع مثل العبد المطيع.
رغم الحرارة المخيّمة المرهقة وأزيز الحشرات المعلن في وضح النهار،لم يكف السرجان عن الجري والبحث عن وسائل يضغط بها على خصمه . ذكَّرته هذه المحنة بصديق قديم ، تعامل معه في السنوات الصعبة التي تلت مباشرة الاستقلال ، انتقل منذ سنوات إلى العاصمة واستقر بها في منصب مهم . وفيما ركن إلى لمقعد الخلفي الوثير لسيارته المتجهة إلى العاصمة مستمعاً إلى حكايات السائق العادية وثرثرته اللجوجة، عادت إلى ذهنه الزيارة المفاجئة التي باغته بها في احدى الأماسي في السنة الأولى للاستقلال وذلك قبل أن يسدل الظلام ستاره المعتم، أدخله إلى غرفة الضيوف وهو يرتبك ويبحث في خياله عن سبب الزيارة الليلية غير المنتظرة طرح تساؤلات مريبة ألا تكون، الزيارة لها علاقة بخياناته أيام الحرب القريبة؟ حافظ على سريتها ولكن من أدراه بأن شخصاً ما يكون قد تتبعه إلى غاية دار مسيو غوميز، واسمتمع إلى الحديث الدائر بينهما؟؟ تفحص الرجل جيداً لعله يكتشف سلاحاً مخفياً على حزامه أو داخل جيوبه، فلم يلاحظ شيئاً يزعجه، استرق النظر خلسة إلى تقاسيم وجه الزائر الذي غلس نحوه دون موعد، فلم تقابله نظرات الحقد والانتقام وبروز الأعصاب الغليظة على الخدين والصدغين، كان يبدو على الرجل الهدوء والانشراح وقليلاً جداً من الارتباك في تحركاته. يعرفه السرجان كأحد المسؤولين الرئيسيين على توزيع الفرينة والزيت والسكر على فقراء القرية، اسمه "بومالح عبد المالك" ويعرف السرجان أيضاً قصة التحاقه بالثورة. تخانق مع الشامبيط حول إشعال النار في الغابة لتحضير الفحم وبيعه. ضبطه وهو يحفر الأرض لوضع الحطب قبل وقوده، فأراد ربطه وجره إلى السجن، دافع الرجل عن نفسه. كان قوياً فتغلب على الشامبيط. صرعه بضربة حديدية على صدغه وانتزع منه البندقية وهرب إلى الجبال.
يتذكر السرجان كيف استقبله بحفاوة مبالغ فيها، مرحباً مهللاً، قائلاً بأن المنطقة كلها زغردت لموقفه الرجولي، فقد أحسن الاختيار، الحرية أحسن من السجن مهما كان ثمنها.
فاسترسل في ذكر خصال المجاهد ووصف فرحة الاستقلال، فأفاض في التفاصيل، لم يسمح للرجل بتلفظ كلمة واحدة حتى حضر الشاي وأضاف بأن العشاء جاهز وأقسم أن يشاركه الأكل.
كل هذا وهو يترقب بتلهف أن يفصح الرجل عن سبب الزيارة، وحينما أدلي الزائر بدوله لم يصدق السرجان أذنيه، طلب منه إعادة شرح طلبه لأنه بدأ يشيخ وثقل سمعه وضعف بصره. حضر المجاهد بومالح عبد المالك ليبيع له بعض الأكياس من المواد الغذائية، منحته الجبهة كمية تفوق حاجياته العائلية، فأراد بيعها لأنه لا يملك مكاناً لتخزينها.
فلم يجد إلا السرجان يتوجه إليه على أن يبقى الأمر سراً بينهما، لأن ألسنة الناس طويلة زيادة عن اللزوم وهم كثيراً ما يسيؤون الفهم ويتسرعون في اطلاق الأحكام الجزافية دونما التأكد من صحتها، في الوهلة الأولى، صدّق السرجان نوايا المجاهد، فقبل شراء الكمية التي كان يتصور أنها لا تزيد عن قنطارين أو ثلاثة، ولكنه حينما فتح الغشاية الكتيمة الخلفية للشاحنة الصغيرة ووجدها معبأة بالتمام والكمال بالأكياس والبراميل، ابتسم ابتسامة ماكرة مدركاً أن الكمية مسروقة لا محالة، وأن قصة المجاهد للتمويه فقط، وعلى من؟.
عليه هو السرجان الذي يلتقطها في الفضاء قبل أن تمس الأرض... احتار قليلاً من السلوك النادر بين صفوف المجاهدين، خاصة في السنوات الأولى للاستقلال، ثم فكر ملياً، وسرّ بداخله، هي فرصة للريح لا تعوّض، أن سعر الحمولة لا يناقش إلا بعد إدخال الشاحنة داخل المستودع الواقع خلف منزله وتفريغها، في ذلك الوقت، يصعب على المجاهد وصديقه السائق التراجع عن البيع إن كان الثمن المقترح منخفضاً، خلال فترة التفريغ، ما فتىء السرجان يشكو من صعوبة البيع والشراء، الناس فقراء لا يملكون المال فيُجْبَر على البيع ديناً، وذلك يسبب له مشاكل كثيرة في العثور على المال الذي يسمح له بالتموين، ثم أن الفرينة هذه الأيام لا تباع لأن كل عائلة تأخذ نصيبها من الجبهة، لذلك يصعب سيلان كل هذه الكمية في السوق، بعد الانتهاء من التفريغ أحضر السرجان فناجين القهوة، ثم حدد السعر بنفسه، سعراً منخفضاً عن الأسعار الرسمية المعمول بها، ولم يجد المجاهد نفساً للإحجاج، مهما كان الثمن، إنه رابح فهو لم يدفع شيئاً مقابل السلعة المعروضة،في الغد سافر السرجان إلى المدينة واتصل بصديق يملك مخبزة فباع له الكمية مع فائدة تفوق خمسين بالمائة ثمن الشراء، ثم اتفقا على موعد الشحن الذي ينبغي أن يتم في أقرب وقت ممكن. هكذا دخل السرجان باب التجارة الرابحة. لم يكتف المجاهد بالشحن الأول بل كرّر العملية مرات عديدة، مع الحرص على دفع ثمن البيع في كل صفقة، غير مبال بشكاوي السرجان، وحججه لإقناعه بأن حالة السوق متدهورة وأن خطورة اكتشاف الكميات المسروقة في بيته، سيدخله السجن بدون محاكمة، كان بومالح عبد المالك خروفاً فأصبح ذئباً.
تطورت الأمور في صالح الرجلين عين المجاهد مسؤولاً عن قسمة الحزب بقرية عين الفكرون، مما ضاعف نفوذهما وتقاربهما والإكثار من الصفقات التجارية بينهما.
انطلقت الذاكرة متموجة، تزيل الغبار وتبعد النسيان عن احداث كاد السرجان أن يردمها تحت أطنان من الغرانيت ويلفظها في أعمق حفرة بحرية وإن وجدت في أقصى شرق الكرة الأرضية قرب جزر الفلبين، لأنها تبعث في صدره ضيقاً خانقاً وتحجب بصره بغشاء سميك، فيفضل نسيانها، ولكنها لا تأبىالابتعاد بل تحاصره حتى في داخل سيارته من نوع 505 آخر موديل مكيفة ومجهزة بكل الوسائل المساعدة لتحمل السفر الطويل، انساق خلف الذكريات التي بنت مجده، فساقته تماماً مثل آلة السفر إلى عمق التاريخ عبر رحلة مرة، أيام كان يترقب يوم الإعلان عن وقف إطلاق النار، في حالة نفسية تشوبها عواطف متناقضة تتراوح بين الخوف من المجاهدين الذين سينحدرون أفواجاً أفواجاً، معبأة بالسلاح، حاقدين على الخونة والحركية، وبين سرور داخلي يغمره لأنه سيغدو الرجل الوحيد الغني في قرية عين الفكرون بعد أن أشتري ممتلكات كثيرة من عند مسيو غوميز وأصدقائه قبل سفرهم العاجل، قضى ليالي عديدة ممدداً على فراشه يخطط ويحلم بمشاريع لا نهاية لها، دون أن يغادره الخوف المبطن من اكتشاف بعض خياناته، رغم الحذر والحيطة والسرية التامة التي حاول جاهداً أن يخفى بها هذه "البيعات" الرخيصة.
لقد ساعد الجبهة بقليل من المال وبعض الأكياس من القمح والشعير، ولكن الإشكال المطروح هو أن المسّبل الذي تعامل معه باعه هو نفسه إلى الجيش الفرنسي، فعذب لاستنطاقه إلى أن لفظ أنفاسه فوق البلاط البارد، ومع استشهاد هذا البطل المناضل، اختفى الشاهد الوحيد الذي كان بإمكانه الإدلاء بشهادة تنقذه من الذبح.
إذن منح ذلك اليوم مجالات واسعة لقضاء الوقت والانشغال بتلك الحكايات القديمة التي حفظها الكل عن ظهر قلب إلى درجة القرف من سماعها مرة أخرى.
في تلك الأيام كان خائفاً، لا يستقر في مكان، ويعلن جهراً عن فرحه لاستقلال الجزائر، بعد الاعلان الرسمي والنهائي الاستقلال، كان يغادر القرية ويقف على تربة تحاذي شجرة خروب باسقة مورقة تنسدل بعض أغصانها إلى أن تلامس الأرض، يمسح السهول المترامية أمام بصره من الأراضي الخصبة، ويتنهد بعمق وحسرة، من سيخلف المعمرين في فلاحة هذه الخيرات الذهبية؟ من سيمتلكها؟ آه... لو تبيعها الحكومة إلى من يملك المال لأشتري قطعة واسعة، تمتد إلى غاية البحر. أقتني مذياعاً من المدينة خصيصاً لالتقاط الأخبار المهمة، كاد يغمى عليه حينما وصله خبر تأميم كل الأراضي التي كان يملكها المعمرون وتحويلها إلى مزارع مسيرة ذاتياً من طرف الفلاحين والقرويين، وعلى إثر ذلك أنشئت تعاونيات فلاحية خاصة بالمجاهدين الراغبين في خدمة الأرض، تبخرت أحلامه وفقد أمل امتلاك قطعة أرض يستثمرها، بعد تفكير حسابي دقيق وجد أن التجارة لمن يدرك تحريك حبالها بدهاء هي الضمان الوحيد الذي يسمح له بجمع ثروة كبيرة، في خضم الاحتفالات المبتهجة للاستقلال، وجد نفسه يتظاهر عبر شوارع القرية وسط جمهور غفير من الرجال والنساء والأطفال يتدثرون العلم الوطني أو قطع قماش خضراء أو حمراء، تنبه إلى الأمر وعلق علماً وطنياً في قضيب حديدي فوق حانوته وأصرّ على التحية الصباحية، فيطيل الوقوف خاصة إذا شاهد مجاهداً يمر عبر الشارع، في بهجة الأيام الأولى للاستقلال حافظ بعض المجاهدين على ارتداء الجاكتة العسكرية وحمل البندقية على الكتف أينما توجهوا، لذلك كان من السهل التعرف عليهم والتكلم معهم، كانوا يكثرون من الطواف ليلاً عبر الشوارع والأزقة الضيقة تحسباً لعدوان محتمل، فترات حرجة عايش بعضها في عزلة سيارته الفخمة التي وإن رآها أحد المصطفين في محطات النقل العمومي تحت أشعة الشمس المحرقة وطيران الغبار الملوث "والذي يتجمع في منخاري الأنف مكوناً مادة عفنة يابسة تسد الممر للهواء، فيحتار صاحب الأنف المكدس عن الوسيلة المثلى للتنظيف". يمسح ببصره المكان وتتسمر عيونه على الأصابع المتعددة المنشغلة باصطياد المادة المزعجة في اطمئنان كلي فيتشجع ويدخل سبابته المظفرة المتسخة ويبدأ عملية تنظيف الأنبوبين المنسدين دون أن يلفت النظر إلى تلك الفتاة الجميلة المتحضرة التي أشمأزت من المنظر وابتعدت ولكنها أين تهرب؟ المكان كله تحول إلى نهر للاصطياد فتتقدم من الاسفلت تترقب أو تاكسي لتغادر المكان بسرعة" فأنه لن يتردد من الصياح "آه.. لو أملك سيارة فخمة من هذ الطراز لما اشتكيت أبداً.. إنها تبعد الغمّ والهمّ والنرفزة" جاهلاً هموم صاحبها وإغراقه في بئر بلا قاع، كما تذاكر السرجان مع صديقه بومالح عبد المالك صاحب المنصب الحساس، فعرجا على الأيام التي كانا يقدمان رجلاً ويؤخران أخرى، قبل الانطلاق السريع نحو السلطة والجاه بفضل دهائهما في تحويل بعض أموال الدولة إلى جيوبهما، خاصة تلك الكمية الهائلة من المصوغات الذهبية المتنوعة التي تبرع بها أهل قرية عين الفكرون بحماس صادق، صادف أن كان بومالح على رأس القسمة، فكلف نفسه بجمع المجوهرات المنقذة من سنوات الشقاء بعد تقطير واقتصاد كانا على حساب البطن وحماية الجسم من البرد القارس، وايصالها إلى الخزينة العامة بالعاصمة، فتاهت نصف الكمية عبر سراديب مظلمة، وسط الطريق الفاصل بين القرية والعاصمة، تطوّع السرجان بكل فرح وسرور بحراستها في حفرةٍ آمنة ومضمونة، بعيدة عن الأعين الفضولية على ألا يكشف عليها إلا بعد مرور سنوات - اسمع يا سي عبد المالك باسم الملح الذي أكلناه معاً، أطلب مساعدتك.. إن حاجتي عندك أنت، أنا أريد بطاقة قدماء المجاهدين، ولا تسألني لماذا مثلما حقق معي ناس عين الفكرون فكرةٌ خطرت ببالي وصمَمت على امتلاكها ثم أحتفظ بها في جيبي أو احرقها فهو شغلي أنا وحدي.. تصوّر أن سي عمروش رفض ملفي- سأحضر لك شاهدين هنا في البيت ويمضيان بالرحب والسرور ونملأ الملف مثلما يحلو لنا، وستصلك البطاقة إلى غاية عين الفكرون.
- أنت لم تفهمني.. أنا لا أعيش في العاصمة، لو كنت كذلك لما احتجت إلى البطاقة نهائياً.
"الدزاير" مدينة كبيرة لا يعرفك أحد ولا يهتم بك الناس، سواء كنت بطلاً مثل عميروش أو حركياً مثل البشاغا بوعلام، ولكن هناك في عين الفكرون، الناس تعرف، والعيون ثاقبة والأفواه ثرثارة لا تصمت. أريد بطاقة نضال من قسمة عين الفكرون بالذات وبامضاء مصطفى عمروش شخصياً، إنه مجاهد من الدفعات الأولى ومعروف بنزاهته، إذا أمضى على ملفي ستسكت الألسنة المغرضة المنافقة، التي تبتسم في وجهي وتسخر مني في ظهري... تصّور أن ابنتي شفيقة الموجودة الآن في الجامعة، عادت مراراً إلى البيت باكية، شاهقة لأنها وجدت من يشتمها بابنة الحركي... وأنا أقسم بالحجات الثلاث التي قادتني إلى البقاع المقدسة بأنني ما خنت أبداً، تعاملت مع المير "مسيو غوميز" لأنني تعرفت عليه أيام كنت عسكرياً وهو الذي تمادى في البحث عني للمشاركة في جلساته الشيقة حول بعض الكؤوس اللذيذة، كان يلح ويكرر الدعوة كي أسهر معهم وأشرب كأساً من "البوردو" الله يغفر لي ذنوبي.. انقطع عن الكلام، أطرق بصره على الزريبة المزركشة ذات الأصل الايراني، المستوردة حتماً من أسواق مرسيليا، كأنه يتابع دعواه ويطلب المغفرة والتوبة الكاملة، أم أنه حنّ إلى طعم النبيذ بأصنافه المتنوعة الجزائرية والفرنسية وإلى الأيام التي سكر فيها حتى النخاع وخبط خبطة الكلاب قبل أن يغادر الحانة متمايلاً، يصهل بصوته المبحوح متصوراً أنه يغني تارة أغاني جزائرية وتارة أخرى أغاني فرنسية رسخت في ذهنه من فترة المدرسة الابتدائية التي قضى فيها بعض السنين قبل أن يطرد، ارتسمت على ثغره الواسع ابتسامة ماكرة، أظهرت نواجده والأسلاك البلاتينية التي تشد بعض الأسنان الإصطناعية، هز رأسه من اليمين إلى اليسار ثم أردف قائلاً مستمراً في حديثه الداخلي، كان صديقه يسمع إليه.
- للأسف، لم تكن تعرفني قبل الثورة، لو كنت تعرفني لكوننا ثنائياً رائعاً.. كنت أتمتع بصحة جيدة وراتبي الجيد كان يكفيني، أصرفه بالدورو على نفسي فقط، نساء خمر، ولائم في أحسن المطاعم.. آه على تلك الأيام! لولا الحرب... لعنة الله كبيرة على كل الحروب، في أية بقعة من العالم، مهما كانت دوافعها.
استرسل السرجان في رواية مغامراته الحاناتية والماخورية في بعض المدن الفرنسية التي تنقل عبر ثكناتها، جاهداً نفسه في استحضار جل التفاصيل من تقاسيم الوجوه، ونبرات الأصوت ومحتوى الأحاديث بالضبط، بنفس العبارات والوقفات الايقاعية، فيما جلس بومالح قبالته على الفوتاي الوثير، يتابع بصمت دون تركيز أو اهتمام، محاولاً التوغل إلى أعماق عقلية هذا العجوز الذي يصرّ على قطعة ورق لا قيمة لها بالنسبة إليه، وهو المالك من المال والمحلات التجارية والسيارات والشاحنات باعداد يعجز المرء على عدها دون الاستعانة بالحاسبة، يهز رأسه بالموافقة كلما توقف السرجان عن الحديث مستدركاً اياه بعبارة مثل أتسمعني جيداً ياسي عبد المالك" أو حينما يذكر له اسم رجل ما غاب عن حقل معرفته منذ سنوات، ليستفسرعن مكان وجوده، استيقظت شهية الكلام عند السرجان وخامره حنين إلى استحضار فيلم حياته، خاصة اللحظات السعيدة، كشريط يتمتع برؤيته وهو مستلق على الفوتاي المريح، وأمامه مستمع نموذجي يكتفي بالاستماع وهز الرأس بالموافقة وإن كانت ظاهرية فقط، دون اللجوء إلى استفسارات محرجة وتعليقات أخلاقية جارحة واطلاق أحكام قاطعة لا تقبل الطعن، ورغم انهماكه في الحديث الحنيني، لم ينس السرجان ارتشاف القهوة، شرابه المفضل في كل الفصول وفي كل الأوقات، فيضاعف عدد الفناجين حينما يصاب بالأرق ولا يعرف طعم النوم بسبب مشكل من المشاكل التي يتلقاها في تجارته، يرتشف الجرعات ببطء ملحوظ، محدثاً تصفيرة حادة، ترتفع تباعاً، وبعد أن يحط الفنجان على الصينية النحاسية، يقول بافتخار "المتعة في شرب القهوة تكمن في التصفيرة التي يحدثها الشارب، وهو يبلعها ساخنة... أنا لا أشرب ماء بل قهوة.." ويحبها ساخنة، تسكب في الفنجان مباشرة بعد اطفاء النار ولا يقبلها دافئة، فيهيج هيجاناً ويصيح شاكياً- كم يتقن فن الشكوى من كساد السوق وتعفن البضائع في المخازن وارتفاع أسعار الشراء بحيث يقنع المتعاملين معه حتى إن كان غير صادق مع نفسه، وما أكثر هذه الحالات التي سمحت له بشراء البضاعة بأثمان منخفضة وبيعها بغلاء فاحش- ثم يقوم من مكانه ويتجه صوبا نحو المطبخ ويشعل الفرن الغازي ويحضر القهوة بنفسه، رغم الحاح زوجته التي تشكو هي أيضاً من روماتيزم في المفاصل- هي كذلك تتقن فن الشكوى عن تدهور صحتها وعجز الأطباء عن شفائها وأنه "أي زوجها" سيكتشفها في أحد الأصباح جامدة في فراشها، وعادة ما تسترسل في بكاء وعويل خافتين يستمر يوماً كاملاً تلعن زوجها الذي فضل الاهتمام بتجارته قبل اهتمامه بها وذلك منذ السنوات الأولى من الزواج، وأهملها مثلما أهملها الأطباء الذين ينسوا من برئها ونفروا من تذمرها وشتائمها اللاذعة لكل الأطباء دون استثناء.
تدهورت صحتها وتضاعفت آلام جسمها، كما انهارت أعصابها وأصبحت مثل المطاط الذابل المهتري، الذي لا يشدّ شيئاً، منذ تلك الحادثة الغريبة والعجيبة النادرة، بل يمكن القول بأن مثل تلك الواقعة التي عاشها زوجها السرجان ومعه كل أهل القرية في رعب وخشوع، لا تحدث إلا مرة في سبعة قرون ويمكن ادراجها ضمن طرائف الكون التي لا يوجد تفسير عقلي لها، في تلك السنة، تأخرت الأمطار عن السقوط وعمّ جفاف لم يشهده البلد منذ أعوام، انتصف شهر جانفي ولم تستقبل الأرض الظمأى قطرة ماء واحدة، فلم يتمكن الفلاحون وعمال المزارع الحكومية من زرع أو غرس نبتة واحدة، تجمع الناس في المساجد وقرروا اقامة صلاة الاستسقاء كل يوم جمعة وفي كل قمم الجبال العالية، لعل الله يستجيب لدعواتهم ويرسل غيثاً مدراراً ينقذ البشر من التهلكة والأرض من الخراب والبوار، فكان الناس يجتمعون مباشرة بعد صلاة الفجر أمام المساجد ويقصدون القمم أفواجاً أفواجاً، راجلين ومضربين عن امتطاء كل أنواع النقل الحديثة من سيارات وشاحنات وحافلات ودراجات، أعدوا وسرجوا الحمير والبغال للمسنين من الأئمة والأعيان، وذلك لكي تصبح الصلاة أكثر نفعاً لأن المسلم يتوجه إلى ربّه عارياً من كل اختراعات الغرب الكافر، فيقف أمامه طاهراً عفيفاً خاشعاً، بل غالي بعض المتطرفين من الشباب أصحاب اللحي المكثفة الخصبة الأنيقة المعطرة، التي يعتنى بها بدقة ويخصص مشط لها وحدها واقترحوا لفظ اللباس الغربي وارتداء الجلابية والقندورة والبرنوس وحماية الرأس بشاشية بيضاء ويستحسن أن تكون هذه الألسنة مستوردة من مكة المكرمة، لتكمل شروط القيام بصلاة الاستسقاء، وتمنى بعضهم لو كان الماء الذي يحملونه في زجاجات بلاستيكية مستورداً هو الآخر من بئر زمزم، حتى يستجيب الله لدعائهم في الحين وتمتلي الأرض ماء قبل أن يغادروا القمم، راجعين إلى الأحياء المعمورة، ولكن كل هذه الصلوات لم تنفع في جلب الأمطار، بقي الجوّ جافاً والحرارة مضطربة والأرض تزيد انشقاقاً والأشجار يباساً والآبار القليلة التي ما زالت تحتوي على ماء للشرب جفت، حتى ظن الناس أن يوم القيامة قد اقترب ومعه ساعة الحساب والعقاب، فغصت المساجد بالمصلين الخاشعين الخائفين، وأغلقت الحانات أبوابها وأضرب الناس عن ملاعب كرة القدم يوم الجمعة ليخصصوا اليوم كله للعبادة والصلاة.
في الهضاب العليا، انسلخت الحلفاء وكل أنواع الحشائش الأخرى وطفقت قطعان الغنم تموت بأعداد هائلة حتى خاف الناس من انقراضها، مما أجبر الحكومة على استيراد كميات ضخمة من الشعير والتبن لانقاذها، وصلت البواخر مصفرة ورست في طوابير دامت شهوراً كاملة لإنزال البضائع المنقذة، وهنا تدخل التجار بحيل ملتوية ولم ينساقوا خلف موضة العبادة الجارفة، فاستولوا على كمية كبيرة من البضائع بالتواطؤ مع بعض الموظفين المرتشين فكدسوها في مخازن سرية، في انتظار انقطاعها نهائياً من السوق لبيعها بأثمان خيالية، يلزم المحتاج نفسه على الشراء أو بيع قطيعه بالجملة مثل البضاعة الفاسدة، ارتفع ثمن الحمولة الواحدة إلى درجة أن المربي يستطيع شراء الشاحنة ولا يمكنه شراء البضاعة التي بداخلها، ولم تفت السرجان هذه الفرصة الذهبية، فركض إلى اقتناء أطنان من الشعير وحزم التبن المستورد من بلاد بعيدة مثل أستراليا وكندا وأميركا، ثم وزعها من مخازنه المبعثرة، منتظراً اشتداد الأزمة كي يضرب ضربة العمر.
شاءت الصدف أن شبّ حريق مهول في أحد المستودعات في ظهيرة قائظة، اقتربت درجة حرارتها من الأربعين فأسرع الناس إلى اخمادها ثم وصلت سيارات المطافيء مصفرة، وتبعتها لاندروفر الدرك، وكم كانت المفاجأة صاعقة حينما اكتشف الجميع أن البضاعة هي تبن وشعير، ماذا تفعل هنا هذه البضاعة التي يتهافت عليها المربون لانقاذ المواشي من الموت المحتوم والانقراض؟ قام أعوان الدرك بتحريات معمقة، فاكتشفوا المخازن الأخرى، وسبق السرجان للاستنطاق نفي معرفته بها نهائياً واتهم بعض عماله الذين أرادوا الإغتناء من ورائه دون أن يحدد أسماً أو يوجه اتهاماً ضد شخص بعينه.
سيق العمال المكلفون بحراسة وتنظيف المخازن وسائق الشاحنات، وبعد استجوابات واستنطاقات عنيفة دامت أسبوعاً كاملاً، اعترف أحد السواق بأن السرجان هو الذي أمره بشحن البضاعة من المرسى واخفائها في المخازن، توسعت التحريات وتجاوزت صلاحيات فرقة الدرك المحلية، ولكن فجأة نزل أمر بالافراج عن الجميع والتوقف عن التحقيق، يكفي مصادرة البضائع، وارسالها فوراً إلى إحدى مدن الهضاب العليا، أفرج عن السرجان وعماله بعد أسبوع من الحجز المؤقت، وطوي ملف القضية كأن شيئاً لم يحدث