بالأمس كان في المخيم
بالأمس كان في المخيم أفقتِ على رنين الهاتف، أتاكِ صوتٌ من بعيد، تعالت الصيحات، أجهشتِ في البكاء وأنتِ تحضّرين نفسك ليوم على غاية من الشؤم. استطعت أن تزغردي رغم ما بك من ألم. عليك أن تتماسكي، ما حصل لا شيء يستطيع رده. حضر الجيران ومن خلفهم أبناء المخيم، المكان لا يتسع للقادمين، اضطروا للانتظار قريباً من البيت وفي الحارات، كبر الحشد وتحول المخيم في لحظات إلى قوافلَ مستعدة للتشييع والمواساة. إنه كيوم الحشر، الجميع بانتظار وصول سيارة الإسعاف، التي ستوصل الجثمان. هل كان خالد يتوقع موكباً مهيباً كما سيحصلُ؟ لم يضع في نيته إلا القتال والنصر، توقع أنه سيحمي نخيل العراق وبترولـه؛ أن يعود حاملاً إلى الشاطئ نخيلاً من أكثر أشجار العراق ارتفاعاً، ومن أكثرها سعفاً وحلاوة وقوة وصلابة لتواجه ريح الغرب على شواطئ المتوسط، في نيته أن يحدث الشباب الذين لم يذهبوا عن المعارك التي خاضها، وكم من الدبابات الأمريكية دمر، وكم من الجنود قُتِل. أخبار القصف طغت على عيد الأم، لم ينم طوال الليل، في صباح يوم الجمعة نسي أن يحضر لأمه هدية كما عَوَّدها، هو غير قادر على التحديق بوجهها، عيناه تختلسان النظر إليها، تتسلقان جسدَها البهي وضحكتها الرنانة، وعبر عينيها يشاهد العالم أمامه ضاحكاً والبساتين مزهرة، تدهمه الأحلام التي عليه أن يستسلم لها، يتأمل قوامها الرشيق على غير عادته. يرى فيها الجمال والحب والحضن الدافئ، هذا ما يحسّه، يخاف أن تلتقط ما تخفي نظراته، أن تكتشف ما في داخله، نظرةً منها تعريه، أحسَّ بالتوتر، أهو قادر أن يقف أمامها يتأملها ثم يودعها، وأن يدعها تقبله وتذرف الدموع؟ أن يحسَّ بمدى حنانها وحبها، بعطرها ونداها، بصفاء روحها، غضَّ بصره، أدرك أنه غير قادر على مصارحتها، خائف أن يزعجها، أيسلِّم عليها ويقول لها كل عام وأنت بخير قبل أن يمضي؟ رآها وهي تجهز الإفطار، بحث عن شيء في حقيبتها، وعندما وجد صورتها وضعها في صدره، فتح الباب الخارجي بخفة، خرج دون أن يشعر به أحد، أغلق الباب خلفه، فبدأت ذاكرته تستعيد معالم البيت، تستعيد صوت أبيه، حنان أمه. أخوته الصغار. عليه مسؤوليات اتجاههم تناساها وحاول أن يتخلص من أفكاره. كان عليه أن يودع المخيم، أن يلقي نظرة على أزقته، ثم يهرب إلى عمَّان التي بدت له قليلة الازدحام في يوم العطلة، نظر إلى نهر الأردن الذي جدد حيويته وعطاءه، دفقه يغذي أعين الملايين بجماله، ويغري الحناجر بالغناء، ومن هناك صافح جبل عيبال وقال بينه وبين نفسه: «أبقاك الله مرفوع الرأس، لبيك يا بغداد...» أقلعت الحافلة، النسمات الباردة تصافح وجهه، تهبه شيئاً من برودتها، الغيوم المتراكضة في السماء تنبئ عن طقس يميل إلى البرودة، وقد تمطر في أية لحظة، أثمَّة مطر في بغداد؟ لم يفكر يوماً أنه سيتجه إلى مدينة الرشيد مقاتلاً، تتجاوز الحافلة الجفور، ساعتان ويكون في الرطبة ومنها إلى الرمادي فالفلوجة فبغداد، يتلفت فتتكشف أمام ناظريه بادية آخرها في السَّماوة، ألم يكن من الحكمة أن تودع أهلك؟ أن تقنعهم بالقتال؟ هل أخطأت؟ لكنك ودعتهم واحداً واحداً دون أن تصافحهم، دون أن تحادثهم، كل واحد رسمتَ صورته في عينيك. رميت رأسك إلى صدرها، امتدت يدها تمشط شعرك وتعبث به، وأنت ساهم منتش، رغبت أن تحتفظ بابتسامتها في شرايينك، تحدثك عن لهفتها، عن شوقها لرؤيتك، عاشت يوم عيدها حزينة، خاصة عندما لم تعد مساء، تساءلتْ إن كنت فعلتها وسافرت إلى العراق؟ حضورها زلزلك، اكتسح كبرياءك، أثار فيك مشاعر متناقضة، عيناها تلمعان ذكاء وتفيضان عذاباً، صوتها بح وجفونها مثقلة بالسهد، تسهر الليل ساهمة، على أهدابها خطوط زرقاء تشي ببؤسها، صوتها مليء بالحزن ومُغلَّفٌ بالكبرياء، فرحتَ لهذه الصورة، تودُّ أن تحفظ قوامها في مخيلتك، أن لا ترحل، أن تصير جزءاً من دمك، أصابعك تتحرك لتقبض على كفِّها، تقربها من فمك، فإذا بك تداعب الهواء. الحافلة تغذُّ سيرها بسرعةٍ، شيء من الذكريات، ذكريات منقوشة في رأسك، تستحضر أخاك الصغير الذي لم يزد عمره عن عامين، وكيف كنت تسترق السمع إلى ما يحدث مع أُمّك في المخاض؟ الهواجس تنتابك تبكي لصياحها لآلامها، كرهت الولادة، مع فوح البخور عانقت زغرودةٌ أسماعك، بكاء المولود دفعك إلى الغرفة، رأيت ملاكاً، غيرت رأيك وبدأت تحسب السنوات التي ستمضي قبل أن تتزوج وتُرزق مولوداً. تداخلت فلسطين والعراق وبتَّ لا تفرق بينهما، المئات يهرولون شرقاً، هؤلاء الذين عشقوا ركوب البحر، آثروا أن يبحروا في مياه دجلة، آثروا أن يصبغوا طميه بالأرجوان، وأن يحملوا نخيله على ظهورهم، ما أحلى اللقاء يا بغداد! كم هو رائع! البوح يختصر الآلام، يمنحك المصيبة ذاتها، الفرح ذاته إن كان ثمة فرح، ترقص الفراشات في دمك على وقع كلمة الفرح، تتذكر مجيء الأمريكان والإنجليز فيغادر الفرح دمك. تغادره الفراشات والعصافير، لا شيء سوى الاحتلال والقتل. جنون الذاكرة يتلبسك، في نيتك أن تهب بغداد فائضاً من الحب والحزن والألم بعد أن أسكنتها نبضك. معالم حضارات أنى اتجهت يزحف التاريخ والجغرافية، يحبوان شاهدين على التواصل حيث الأوابدُ والقصور والآثار، حيث التلال والصحراء التي تصل إلى تخوم العراق، ترجَّل «نبوخذ نصر» وصفَّ جنده، آلاف الرجال يملؤون الصحراء. القلب يقفز مع الأكاديين والبابليين... كلما اقتربت أكثر من بابل، الشمس تعرت من ضيائها ودخلت الأسوار، دخلت خباءها وارتدت ثيابها الرّثّة. النخيل الذي فرخ في بلاد بعيدة، يحاول أن يعيد زرع ذاته، لا يجد تربة ملائمة، أما معك يا خالد فاللقاء حار، الشوارع تهمس بعذب الكلام، آلاف رحبوا بقافلتكم، بغداد تتعرض للقصف لليلة الثالثة على التوالي، نشرت شيئاً من ابتسامتها وأملها، احتضنت كل العواصم، كل ما في بغداد بهي. كلها ذاكرة، ذاكرة اللمس والسمع والرؤيا، ذاكرة الألم والقتل، ذاكرة الحسين، ذاكرة الحضارة والكلمات التي أمر «داريوش» بنقشها على الصخرة للأجيال القادمة: «أنتم يا من في الأيام القادمة سترون هذه الكتابة، بالأمر قد كتبتْ بمطرقة على الصخر، يا من سترون هذه الصورة البشرية ههنا لا تمحوا ولا تخربوا شيئاً. اهتموا ما دام لكم ذرية بأن تتركوها دون إزعاج» مكانك الآن جنوب شرقي بغداد في شارع الرشيد قريباً من جسر الجمهورية وإلى الجنوب منك شارع أبي النواس، جبت المدينة ووصلت شرقاً إلى شارع السعدون وغرباً إلى شارع المنصور وشمالاً إلى شارع دجلة والمشفى الجمهوري، تنقلت في أحياء عدة مع عدد من الأخوة العرب، عليك واجبات الحراسة والمراقبة والاستطلاع، تنفيذ عمليات اصطياد دبابات العدو وآلياته وجنوده في الكوت والهندية... والعودة إلى بغداد، في اليوم الثالث لوصولك لبغداد أحضرت شابة من بيتها القريب من مكانكم الشاي، ارتجفتَ وجف ريقُك، هي نظرت إليك وكادت تتعثر، ناولتك الإبريق وعادت مسرعة، شعرتَ أنها أخذت شيئاً من روحك وفرحك وهدوئك، جسدك يشتعل وكل مياه دجلة لا تطفئ الحريق. الخمرة تلف رأسك. قوامها الرشيق وحديثها الشيق في الأيام التالية، جعل العواطف تجتاحك، لقاؤكما استمر أياماً، تسألك وتجيبها، تستعذبان الحديث، تحدق إلى وجهك، وتمسح دمعة تسللت من عينيها، أحسست بالهواء المنعش يتغلغل إلى فؤادك. سلمى لم تتجاوز السابعة عشرة، تسألك عن فلسطين، عن أهلك، تحاول أن تعوضك عن غربتك، أن تهبك شيئاً من عطفها ورقتها، أظهرت إعجابها بموقفك، وهاهي ذي تحدثك عن حضارة الرافدين بداية بالسومريين ونهاية بالرشيد، أحسست أن الله جاء بك إلى هذا الشارع ليمنحك حباً لم تره من قبل، ولتدافع ليس فقط عن بغداد وسلمى بل لتمنع الخراب والقصف، إذ كلما دوى صوت الطيران وقصف الصواريخ، تدوي صرخات من الأرض تنبئ أن لا شريعة مع القتل والاحتلال، يزداد القصف على تلك الشريعة المنقوشة على الحجر، الشريعة التي أمر ملك سومر وآكاد، ملك المناطق الأربعة وملك العالم «حمورابي» نقشها على صخرة. رائحة ندية تعبق في صدرك مع قدوم سلمى، يسري شذاها الطيب في مسامات جسدك، روحها الندية تهبك الاطمئنان، أنثى لحضورها فرح وغناء، هل يمكن للكلمة أن تصير غذاء وهواء وماء؟ تأتي وقد حفت العباءة بها، تلمها على جسدها فتبدو طويلة كالنخيل رقيقة كمياه دجلة، كلها وقار واحتشام، شعرتَ أَنها النبع الذي سيهبك الماء والعسل، في الأسبوع الثاني لوجودك، جاءتك مبتسمة، وقفت أمامك وجهاً لوجه، عيناها المرحتان اليقظتان تقرأان لهفتك، قلت: - أحبك يا سلمى! - وأنا أحبك يا خالد! كان لابد أن تتفاءل رغم الآلام والقصف، أن تحبس دموعك في مقلتيك، ألف أغنية تنطلق من حنجرتك، الحب يبرعم، تخاف الموت وهي تخشاه، أَحسست بخفق قلبها، تتوحدان في الألم، لم تهمل ما عليك من مهمات، أعطيتها صورة أمك، حفظت الصورة في حقيبتها، ترتعش فرحاً وحزناً، جسدها نفحة عطر وطيب لا تذبل ولا تغيب، وعدتها بالصداقة بعلاقة أبدية بينكما، إلا أن الخريف فاجأ الربيع، عندما ألقت إحدى الطائرات صاروخاً قريباً من مربضك، جاءتك بقميص النوم حافية تركض، صعدتْ إلى جانبك في سيارة الإسعاف، دموعها الحارة تغسل عنقها، صوتها الحنون يدعو الله أن ينقذك، أصابعها الناعمة تجس جسدك، تحاول التأكد من نبض قلبك، تشق النوارس عباب البحر وتنتحر، وقفت إلى جانب جثمانك تعاني الألم، حزينة تردد: ـ غادرتنا مبكراً، ماذا أقول لبغداد والقدس؟ قالت هذه الكلمات وسيارة الإسعاف تتجه غرباً، قالت ذلك وهي متأكدة أن بغداد أخت للقدس، وأن خالداً أحبها كما أحب أمه، ما زالت بقايا ابتسامته في مخيلتها، وما زالت صورة أمه في حقيبتها. |