الخمخوم
|
الخمخوم حين قفز الخمخوم على نحو مفاجئ, تلك القفزات الشاقولية المتتالية، والمتراتبة مع إيقاع صيحاته المرتفعة « غبحت.. غبحت.. غبحت..!» همست فاطمة لنفسها لابدّ أنّ شيطاناً قد تلبّس زوجها..! ثمّ تساءلت: « أيكون قد انسلّ ـ في غفلة منه ـ إلى سفله, فجعله, يعلو ويهبط, على النحو الذي رأته عليه, كأنّما هو فوق نابض مرن..» ورغم أنّ فاطمة, قد ترجمت محتوى صيحات الخمخوم الذي كان يلثغ بالراء فيجعلها غيناً, إلاّ أنّها لم تدرك مراميها جيّداً, كانت فاطمة حانقة على الخمخوم الذي كان قد فتح نافذة الغرفة، والدنيا في عزّ الشتاء, فأخرج منها رأسه, بعد أن اتكأ بكوعيه على حافتها, معطياً فاطمة دبره غير عابئ بالبرد ولا بالأذى الذي يمكن أن تتعرّض له الأمّ وأولادها. كم تمنت حينئذ لو أنّ رأس الخمخوم المتطاول على غير مثال, قد تطاول أكثر, لينطح السقف, فيتهشم وبذلك تتخلص منه, ومن شرشحة فقره, وسوء تدبيره. لكنّ الذي لم تعرفه فاطمة, أنّ ذلك لو حصل لكان السقف الواهي انهدّ على من تحته, ولكان الخمخوم قد ولّى آخذاً معه سرّه الكبير..! فلا أحد من أسرة الخمخوم ـ إن كان بقي منها أحد ـ سيعلم شيئاً عن حكاية ورقة اليانصيب بل أوراق اليانصيب التي اعتاد الخمخوم على شرائها خلسة, موفراً ثمنها من الفضلة التي يؤمنها لـه سوق الخماخيم, فالخمخموم يرتاد هذا السوق منذ زمن طويل وما لقبه إلاّ من ذلك السوق..! هذه المرّة, وبسبب ارتفاع ثمن ورقة رأس السنة الجديدة, ادعى الخمخوم أنّه فقد مبلغاً لدى البقّال حتى لا يقع في إشكال مع زوجته, وليبرّر التقشف المضاعف الذي فرضه على الأسرة.. ففي الوقت الذي كانت فيه فاطمة تعالج مشكلات الأسرة وفق مبدأ ( الحصوة تسند جرّة ) كان الخمخوم يرى خلاصه النهائي في تلك الأوراق الزاهية بألوانها, الواعدة بأرقامها, فهذه الأوراق وحدها تسمح لروحه أن تعتلي متنها، وتسافر في رحلة ممتعة إلى عوالم المجد والرفعة..! فما إن يمسك الخمخموم بإحدى تلك الأوراق، حتى تأخذه الدهشة من الريش النابت على ساعديه.. وحين يرى إلى ذلك الأمر، ينتابه شعور بالخفة.. فيرفرف بجناحيه ثمّ يغرق في طيران مرح طويل.. يطير ويحلّق.. يطير ويحلق.. ولا يعود، إلا ومعه الحلول المناسبة لكلّ مشكلاته المستعصية, بل لا يعود إلا وهو الرجل النبيل القادر على رسم البسمة فوق شفاه جميع من يعرفهم, أو لا يعرفهم من الناس المعوزين أو المحرومين..! هذه المرّة، طوّر الخمخوم من برامجه الخيرية, فالمبلغ كبير جداً، يسمح لـه بالتنازل عن قسم منه إلى بعض الجمعيات والمساجد ورياض الأطفال.. ولسوف يوضع اسمه في صدر ردهات تلك الأماكن مشفوعة بعبارات الثناء على المناقب الفاضلة للسيّد خلف حميد العلي الملقّب بالخمخوم.. لا هذا الخمخوم سوف ينزع عنه ـ بإذن الله ـ إلى الأبد. كان الخمخوم ما يزال على وضعه السابق, يرهف السمع, من خلال النافذة, إلى صوت المذيعة المنبعث من تلفاز الجيران. المذيعة تتلو النتائج الأوليّة, أو كما يسمّونها نتائج الأرقام المنتهية.. وعلى الرغم من أنّ الخمخوم لا يعير هذه الأرقام ولا الجوائز الثانويّة الأخرى أيّ اهتمام، فهي لا تساعده على تحقيق أحلامه وتنفيذ برامجه كاملة..! إلا أنّه ابتلع ريقه ولعن حظّه أو كاد, حين انتهت المذيعة من إعلان الجوائز الثلاثة ما قبل الأخيرة. استغلّ الخمخوم فترة الاستراحة القصيرة التي سبقت إعلان الجائزة الكبرى، وغادر النافذة متوجهاً إلى الحمّام، بينما أخذ صوت المطربة هدى سلطان يصدح بالأغنيّة التي يعشقها الخمخوم ( يا ضاربين الودع.. هو الودع قال إيه..؟ خصام حبيبي دلع ولاّ خصامه ليه..؟ ). تأثّر الخمخوم بالأغنية، فتخلّص سريعاً من حالة التشاؤم العارضة.. أخرج الورقة، وهو ما يزال في الحمّام، ألقى نظرة سريعة على الرقم العزيز لديه..! تأكد من أنّه لم ينس الرقم, وكيف ينساه، وقد فاوض بائع اليانصيب ليحسم له شيئاً من ثمن البطاقة، متذرعاً بغرابة الرقم وقلة فرصه..؟! وبالفعل فقد حسم لـه البائع جزءاً بسيطاً من ربحه. عاد الخمخوم وهو يدندن مقطع الأغنية مبدلاً بعض كلماته بما يبعد قلقه, « رقم حبيبي لمع وإلا باقي عليه؟» وما كاد يصل إلى النافذة حتى انقطع صوت هدى سلطان، وعلا صوت المذيعة يعلن الرقم الفائز بالجائزة الكبرى, ويعيده عدة مرات, مع ذكر اسم المدينة التي بيعت فيها ورقته, عندئذٍ قفز الخمخوم وصاح.. قفز وصاح مرّات ومرّات.. ثم غادر المنزل دون أن يقول كلمة, أو يلقي نظرة على أحد. فكّر, وقد صار في الشارع, عليه أن يخبر بعض أصدقائه أو أقربائه ليذهبوا معه لقبض الجائزة أو للقيام بالإجراءات المطلوبة, لكنه استدرك « الناس عيونهم ضيقة ونفوسهم جشعة, تأكل صدورهم نيران الغيرة والحسد..! فلتذهب وحدك يا الخمخوم..» ومضى الخمخوم وحيداً، يستعيد في ذهنه ما كان أعدّه لهذا الحدث المرتقب، ( روضة الأطفال, دار العجزة, المسجد, أجرة عملية ابنة أبي لطفي, شراء دراجة لزميله مصطفى, بائعي سوق الخماخيم, إخوته, بعض أصدقائه, وزّع المبلغ الكبير بعد أن ترك ما يكفيه ويزيد, بل ما ينقله إلى وضع ممتازٍ.) حين همّ بالتوزيع الدقيق سأل نفسه كم تراه سيعطي روضة الأطفال.؟ « مئة ألف ليرة.. لا مئة ألف, مبلغ كبير جدّاً..! العمى مئة ألف تنشئ روضة بكاملها..! يكفيها خمسون ألف ليرة, وحتى الخمسون كثير، يكفيها خمسة وعشرون.. لا بل عشرة آلاف فقط.. ولماذا عشرة الآلاف, مالي أنا وألعاب الأطفال, أولادي لم يلمسوا الألعاب طوال عمرهم, لتوفر الإدارة من الأرباح، ومما تجمعه من أولياء الأطفال, يخرب بيت مديرة الروضة هذه ما أطمعها..! ثم إذا أعطيت هذه الروضة فمن يعطي بقية الرياض, ولماذا التمييز بين روضة وأخرى؟ فلتصرف النظر ياالخمخوم عن الروضة, وعن المسجد أيضاً، فلماذا السجّاد للمساجد, ثواب المصلين في تعبهم ومعاناتهم, أهو مسجد أم منتجع؟ سجاد ومراوح ومدافئ.. ذلك لا يتناسب مع حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، «اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم..».. أمّا دار العجزة التي كان قد وضعها في قائمة أعماله الخيرية المزمعة.. فقد أبعدها عن ذهنه كلياً.. معلّلاً ذلك بأن نزلاءها صائرون إلى الموت « وما نفع إنفاق الفلوس على الأموات..» وحتى أصحاب عربات سوق الخماخيم الذين سيشيّد لهم دكاكين نظامية ويؤجرها لهم بأسعار متهاودة.. صرف النظر عن ذلك المشروع.. فهؤلاء في الأصل لا يستأهلون عمل الخير, كلّهم غشاشون، يبيعون البضائع الفاسدة بأسعار خياليةً..! سيعطي فقط أجرة عملية القلب التي يزمع جاره أبو لطفي إجراءها لطفلته الصغيرة, بل سيعطيه نصف الأجرة وليضع أبو لطفي الأغنياء والتجار أمام واجباتهم الدينية والاجتماعية والأخلاقية أيضاً, هؤلاء جلودهم محشوة بالمصاري. « لكن يا الخمخوم لو ساعدتها حقاً فمن يضمن لك نجاح العملية؟ وإذا لم تنجح العملية فالخسارة ستكون مضاعفة، المال والبنت..!» « الأفضل أن يذهب أبو لطفي بابنته إلى المشافي الحكومية، إنها تفتح أبوابها للأغنياء والمسؤولين الحكوميين.. الفقراء أحق بها من هؤلاء، ثمّ إنّ المشافي الحكومية أفضل من الخاصة، فلديهم العناية والمعدات والأطباء الذين يخافون ربهم.. وعلى كل حال فالشفاء ـ أولاً وأخيراً ـ من عند الله سبحانه وتعالى.» وجد الخمخوم وهو في طريقه إلى مكتب اليانصيب حلولاً تسوّغ له الإفلات من كلّ الالتزامات التي فرضها على نفسه تجاه أصدقائه ومعارفه أفراداً وجماعات.. ولم يبق في عهدته سوى المقرّبين جداً, فمبلغ بسيط لأخيه عمر يستكمل به لوازم الزواج, ومثله لأخته التي غادرها زوجها منذ زمن تاركاً لها أولادها الأربعة، وربما مبلغ مشابه إلى صديق عمره الذي يسهر معه كل ليلة، فلعله يحقق حلمه ويشتري الدراجة التي يحلم بها لتنقله من بيته إلى مكان عمله وبالعكس. تنهد الخمخوم..! كثيرون الذين يحتاجون إلى المساعدة « ولن تحلّ وحدك يالخمخوم مشكلات الناس, ولن تقدر أيضاً على تغيير سنة الكون, إن حللت مشكلة زيد, فمن يحلّ مشكلة عمرو وخلف وأحمد وسفيان وخالد وإبراهيم وكلّ الفقراء.. يا الله ما أكثر الفقراء على وجه الأرض..!» على كلّ حال هذه هي الدنيا، وهكذا خلقها الله, فقراء وأغنياء, ألم يذكر جلّ جلاله في كتابه العزيز « وجعلنا بعضكم فوق بعض درجات » . كان الخمخوم على بعد أمتار من مكتب اليانصيب, ارتاحت نفسه واطمأنت للحلول المناسبة التي أوجدها لكل المشكلات العالقة, فقد برّ بوعوده التي قطعها على نفسه ولم يبق سوى أن يرتب حياته المقبلة وفق ما يناسب الوضع الجديد, وعلى ذلك فقد قرر أن يغادر مدينته إلى العاصمة فهناك المجال أرحب, وهناك يعيد صياغة حياته بعيداً عن سوق الخماخيم، وأربابه، وزبائنه، وأوخامه, وكذلك عن زوجته النقّاقة، وأولادها الذين لا يعرفون الشبع, ومهما يكن من أمر عياله, قال الخمخوم بثقة وارتياح: « ما من أحد يموت من الجوع.» |