اغتصاب

نلتقي في آخر الشارع، عند الدوّار الأخير، أحسبه ينتظرني كلما مررت من هناك، ما يكاد يلمحني عن بعد؛ حتى يطير مثل ومضة البرق، وقبل أن أفيق من المفاجأة يلتصق بي.‏

أحسّه يدخل في شراييني، يصير بعد لحظات عينيّ اللتين تريان، وأذنيّ اللتين تسمعان، وذراعيّ اللتين تتحركان، وساقيّ اللتين تمشيان.‏

غالباً ما يُغضبني فأكره ساعة تعرّفت عليه، لكنّني أحياناً أرتاح إلى صحبته، أكون قد مللت من التحدث مع الناس، حديث الناس لا يرضي الخاطر، فكل من أعرفهم "ولأنني صاحب منصب رفيع" يوافقونني في أي شيء أقول، ويصفّقون لي كلما استعرضت أمامهم صواب أفكاري، أو قوّة عضلاتي.‏

أحسّ أن ردّات فعلهم فيها كثير من الزيف والتملّق، أقبل الأمر مرّة بعد مرّة لكنني في لحظة مكاشفة حقيقية مع نفسي، ومع ما يجري أمامي وتحت قدميّ على الأرض أجد الصورة مختلفة، تلطمني خيبة ثقيلة، فتأخذني خطواتي الحائرة إليها.!!‏

لم أكن رأيتها بعد عندما أسكنتُها دون أن أعرفها عن قرب سدّة قلبي، وجعلتها شاطئاَ أسعى للرسو فيه. صوّروها أمامي جميعهم بأبهى صورة، الخطباء والكتب والإعلانات، ورسموها في مخيّلتي، حتى أصبحت مثليَ الأعلى الذي يجب أن أقاتل وأتعب لأصل إليها.‏

قالوا جميلة، لم تلد النساء أجمل منها، صادقة وفيّة مخلصة.‏

وصفوها بأعذب الكلام الجميل المنمّق الذي توصف بها عادة الأشياء الخارقة، يوم رأيتها لأول مرّة كنت صغيراً لم أبلغ بعد مبلغ الرجال، وكان هذا الذي يلتصق بي، كلّما قصدت هذا الشارع صغيراً أيضاً مثلي، لكنني تصوّرته دائماً يعرف أكثر منّي.‏

سألته وأنا أشير إليها بدهشة:‏

ـ من هذه.؟‏

نظر إلى حيث نظرت فارتدّ طرفه، كانت تقف بقامتها المتناسقة الجميلة فوق لوحة رخاميّة مصقولة، على رأسها تاج من غار، وبيدها مشعل تضيء به المشارق والمغارب، وغلالتها البيضاء الشفيفة تهفهف على جسدها فينحسر عن فخذيها العاجيين فتحسبهما والغلالة شيئاً واحداً ليس بينهما انفصام ولا تباين.‏

أصلُ إلى الدوّار الأخير لأستقبل الشارع الضيّق السائب من آخره قاصداً بيتها.‏

لا أعرف لماذا كلّما جرفتني نفسي إلى مواقع الهزيمة، وأوقعتني زلاّ ت لساني وجرّتني إلى سراديب معتمة لا ترى فيها غير جنازير وقيود؛ لا أذكر إلاّها وهي التي ما قبلت بوحي بعد ذلك المساء، وما صدّقت صدق مشاعري.‏

هي هفوة واحدة ارتكبتها.‏

كنّا نتمشّى على رصيف هذا الشارع، تمسك بيدي، وتحدّثني، تنظر إليّ بين حرف وحرف تبحث واثقة عن صدى كلماتها مطبوعة على تفاصيل وجهي، فلا تجدها.‏

كنت وقتها أسبح في ندى همساتها، أحس بخدر يتسرب من أصابعها ويصل لذيذاً إلى قلبي، كأنها تفرد لي ألف جناح أبيض لتحملني عليها وتطير بي إلى فضاء آخر ليس كالفضاءات التي أعرفها، أحسّ قبل أن ألجه أنني مقبل على التحرر من قيودٍ كبّلت عبر شوط عمري كل شيء حيّ فيّ، كأنني مقبل على انطلاقة ساجية ما بعدها انطلاق، تقول فتندف كلماتها عطراً لـه رائحة المسك:‏

ـ يتغنّون بي، يعشقون ذكري، وساعة أمدّ لهم وصالي يجتاحونني بلا رحمة.‏

وأنا أستمع، كأن الصوت يأتيني من أعماق جبّ ليس لـه قرار.‏

فجأة دفعتها بكتفي إلى مدخل بناية معتم، وقبل أن أصحو وتصحو من مفاجأة ما جرى كنت أطبق على شفتيها فاستسلمت.‏

ثم أخذتني حالة أخرى لا أعرف ماذا أسمّيها، فقد انزلقت يدي وتحسست فخذها.. كانت ترتدي فستاناً من قماش رقيق وناعم انكشف تحت أصابعي، فشعرتُ برعشة باردة تسري في أوصالي، لم تكن لذيذة هادئة بل عنيفة هادرة اجتاحتني، تغلغلت في مفاصلي ثم اصطدمت بإرادتي، وبدّلت راحتي التي كانت قبل لحظة دافئة إلى قطعة جليد ميّتة، وغشاوة ثقيلة أبقت على ما بقي في وجهي من ماء الحياء.‏

فتحتُ عينيّ، لم أجدها، سمعت كلمة واحدة تردّدت ألف مرّة:‏

ـ وأنت أيضاً، وأنت أيضاً، وأنت أيضـ.....‏

لم أفهم ماذا عنت بـ "أنت أيضاً"، طارت من بين يديّ.‏

مثلما تأخذني الحالات في غالب الأحايين أخذتني إليها هذا المساء أيضاً، رأيته من بعيد يترصّدني في آخر الشارع، قلت: ها قد جاءك من لا يرائيك.‏

هل أستقبله ببشاشة، وأفرغ بين يديه همّي، وأبثه ما يعتمل في صدري، أم ماذا؟‏

ومثلما يفعل في كل مرّة اكتسحني، وأطلّ بعينيه المظلمتين والابتسامة الجريئة لا تفارق شفتيه، تمنيت لحظتها لو أستطيع تمزيقه إرباً.‏

أعرف أنه سينقلني بسخريته اللاذعة من طيف حاجتي إلى حقيقة أسعى إليها بين يديها، وأجاهد بأنفاسي وروحي كي ألمسها، سيأتي ويسقطني بصلف في فوهة بركان انطفأ لهيبه منذ لحظات.‏

ـ عدتَ من جديد.؟!‏

هي المرّة العاشرة التي أعود فيها، والمرّة العاشرة التي يبادرني فيها بسؤاله الساخر ذاته.‏

ـ روحي معلّقة هنا..‏

ـ تتوق إليها أليس كذلك؟‏

أتوق إليها كلمة صغيرة، حاولْتَ أن أعيش حياتي دونها وأنسى فلم أقدر، أتراني قسوت عليها أم على نفسي؟ أم تراني مخلوقاً لغير هذا الزمن.؟ أم تراها تطوف في عالم ليس لها.؟‏

ـ ويوم وجدتها حاولت.!!‏

ـ أصابعي حاولت، تمنّت، كيف أستطيع الصمود أمام سحرها؟ يا صديقي أنت أدرى بروحي لأنك تعيش فيها، وأدرى بكل خفقة تتردّد في صدري تتوق إليها، لم أصدّق أنني في لحظة سحرية خاطفة وجدتها فاجتاحتني رغبة التملّك.‏

آه يا صديقي لو أنها تغفر لي..!‏

كان يضحك بسخريته اللاذعة، قال شيئاً عن النضوج، فتىً مثلي لا يملك غير رغبات التملّك والأنا لا يستحقها. قال:‏

ـ جاءتك بغلالتها الشفيفة، لكنّك لم تفهم.‏

عشت عمري لا أفهم شيئاً مما يدور حولي، وُلدتُ من رحم لم أسأله ولم يسألني، وحين ترعرعت قليلاً أحدهم قال أنا أبوك.. فأحببته.‏

آخر قال عليك أن تتعلّم فتعلّمت، ثم بدأت الأشياء والناس والأحداث تتدفّق فرادى وجماعات إلى نسيجي، تتقاسمني وتدخل إلى مسامات جلدي.‏

فتحت عينيّ على هدهدات أمّي فتعلّمت منها الحنان، ضربني صبيّ أكبر مني سنّاً فتعلّمت منه القسوة، عاقبني المعلّم فتعلمت مبادئ العقاب، ولم أدرك تعلّم مفردات الثواب.‏

كبرت أكثر، أخذتني زحمة الحياة، صرت عرضة لتجارب أكبر فرضتها عليّ غريزة البقاء والحماية والخوف.‏

أحببت وكرهت، ظُلمتُ وظَلمت، جاءتني رياح بعيدة قلعت جذوري من حديقة بيتي، فتعلّمت الحقد، قهروني فاهتزّ انتمائي، تنفّستهم جميعاً رغماً عنّي، فانحشروا في عروقي، فتشكّلتُ على الصورة التي أنا فيها الآن، أجزاء صغيرة تجمّعت من هياكل كبيرة ارتشقت على أرض خواء وأخرجت بتراصّها الواحدة إلى جانب الأخرى شيئاً أسموه أنا.‏

المدهش أنني وسعتهم جميعاً.! أصبحت مائة قطعة في جسد واحد، مثل ظبية كانت جميلة في حجمها الحيّ، ثم ضاعت معالمها وأخذت شكلاً أسود قبيحاً لقطيع نسور تجمّعوا فوق جيفتها.‏

هكذا أنا أصبحت.‏

ـ يا صديقي لقد جاءتني بغلالتها الشفيفة.‏

ـ ولم تتعلّم.!‏

ـ تعلّمتُ، ولكن هؤلاء الذين يسكنونني سبقوني إلى أصابعي ففعلت ما فعلت.‏

ـ لو انتظرت قليلاً كانت حرارة اللقاء ستقودكما دون أن تدريا إلى ما تصبوان إليه.‏

ـ ما الفارق؟‏

يوم عرفتها قالت: إن ثمّة فوارق كثيرة بين من يحب ويسعى صادقاً نقيّاً إلى من يحب، وبين من ينشد مغامرة عابرة، أن تتوق إلى من تحب شيء، وأن تفهم حقيقة من تتوق إليه شيء آخر، لكنني ما فهمت.. حاولت، ثم تسللت أصابعي دون إرادة منّي، وندمت.‏

ـ ساعة لا ينفع الندم.‏

ـ أنا صنيعتهم.‏

ربما أكون صنيعتهم، يعلم الله أنني لم أشأ، ناضلت بكل ما أملك من قوّة كي لا أكون لكنّهم غلبوني.‏

ثم تعلّمت أعضائي منهم الدرس تلو الدرس، رفضتهم، وما أزال أرفضهم لكنّهم دخلوا نسيج خلاياي وأصبحت عبداً لهم ولرغبة تلح عليّ ساعة بعد ساعة.‏

ـ أنت مثلهم، علّموك أن تعلّق خطاياك على مشاجب الغير.‏

يطلّ علينا بيتها من بعيد، رأيتها تقف فوق لوحتها الرخاميّة، على رأسها إكليل الغار، وبيدها الممدودة مشعل تضيء به المشارق والمغارب، رأيتها فسبقني قلبي.‏

ـ تمهّل أيها المجنون.‏

أعرف أنني مجنون بها، أعشقها، ليس لي خلاص إلا على يديها، ولكن، ولكن.!؟‏

اقتربت منها، كان صديقي المعشش فيّ يحاول أن يشدّني إلى الوراء ليسبقني إليها.‏

فجأة.. سقطت العتمة من أمكنة كثيرة أطفأت أضواء الشارع والشعلة وبريق اللوحة الرخامية، إكليل الغار وحده بقي يرسل موجات بريق مثل منارة مقبلة على الانطفاء.‏

أحسست بألف جسد حيّ يخرجون تباعاً من مسامات جلدي، ورأيتهم.‏

رأيتهم بعينيّ هاتين يطبقون عليها، ويغتصبونها الواحد تلو الآخر، وهي تحاول أن تصرخ، تستغيث، وأنا أقف على مرمى صرختها أراقب مشلولاً مكبّلاً صديقي وهو يسبق الجميع، يطبق بسخريته ومثاليته الفجّة على صرختها المفزعة.‏

يااااه.. مضى دهر قبل أن تهدأ نفسي، ويهدأ الصخب من حولي.‏

عادت إلى لوحتها الرخاميّة، وعاد المشعل إلى يدها منيراً يضيء المشارق والمغارب، الغلالة البيضاء وحدها تمزّقت، وصوت صديقي يشارك صوتي وأصوات المئات الذين عادوا منهكين إلى جسدي.‏

كلنا صرخنا في وقت واحد.‏

ـ نتوق إليها.‏