سباق إلى الهاوية

سئم الملك (بطّاش الأعرج) من الحكم وحدّه واستعراضِ حرس الشرف وحدَه، وإصدار أوامر الإعدام والعفو والسجن وحده، وتلقي برقيات التهاني والتعازي والولاء والتأييد وحده.‏

وتناهى إلى سمعه أنّ التطوير من سمات القرن الجديد فقبل باقتراح جاريته الأخيرة في لحظة نشوة وقرّر بأريحية تعيين وزير يعينه يساعده في حمل أعباء الحكم التي حملها باقتدار وحده ربع قرن مع انه قادر على حملها ربع قرن آخر، وحين سأله ناسخ الأوامر عن صيغة الأمر الخطير لمسابقة اختيار الوزير أجابه (بطاش الأعرج) بثقة وصراحة:‏

ـ يستحقُّ وزارتي.. الأكثرُ إخلاصاً وولاء لي!!‏

الاختبار التمهيدي‏

استوى (بطّاش) على كرسي العرش واضعاً على هامته التاج المرصّع بألف جوهرة وجوهرة وأخفى قدمه المشوّهةَ تحتَ ثوبه السابغ المحلّى بألف ماسة وماسة وأخذ يمتحن بنفسه منتشياً مئات المتسابقين الذين تقاطروا إلى القصر للفوز برتبة الوزير وكلٌّ يعلن بطريقة رائعة مبدعة ولاءه للملك.. ورغم الغربلة والتمحيص فقد عجز الملك وهو الذي لا يعجز أبداً عن حسم الأمر واختيار الوزير.. إذ حارَ بين ثلاثةٍ أظهروا ولاءً يبزّ كلّ ولاء.. فأمهلم الملك للامتحان الأخير ثلاثة أيام.‏

الامتحان الأخير‏

جلس بطّاش على عرشه ووضع على هامته التاج المرصّع بألف لؤلؤة ولؤلؤة وأخفى قدمه الشوهاء تحت ثوبه السابغ المنسوج من خيوط الذهب والبلاتين وأحاطَ نفسه كما يحتاج كلّ ملك خالد بالحرّاس والحماة والمسلّين والهمازّين والمتملقين والمّداحين والجّلادين.‏

أشار بطاش بسبّابته الكريمة فدخل المتسابق الأول يضع على عينيه عصابة سوداء ويتلمّس طريقه بعكاز لا يكاد يثبت على أرض القاعة المرمرية وحين وصل إلى الخط الفاصل بين الراعي والرعية أوقفوه.. فهوى راكعاً حتى لامستْ جبهته رخام الأرض.. وارتفعت مؤخرته تنعكس عليها أضواء النجفة ذاتِ الألف مصباح.. صرخ الملك بصوت كالرعد.‏

ـ ما بك أيها المتسابق؟! عهدناك مبصراً منذ أيام فما الذي أصاب عينيك؟‏

ـ أتسمح لي بالكلام يا مولاي؟‏

ـ أنا الوحيد الذي أسمح.‏

ـ نورك المبهر يا مولاي هو الذي أعشى بصري في اللقاء الأول.‏

ـ نوري؟!‏

ـ نعم يا مولاي فأنت المُبهر المُعشي.. الخاطفُ.. المُعمي.. لقد تجرأتُ في المقابلة الأولى فرفعتُ بصري لحظة فقط إلى وجهكم الألاء فارتدّ بصري حسيراً وجرى لي ما ترى.‏

أسكر الجواب الملك فصرخ بانتشاء:‏

ـ أحسنت.. أحسنت.. أعطوه من الذهب ما يعادل وزن عكّازه.‏

ـ هل تسمح لي أن أتجرأ بسؤال يا مولاي؟‏

ـ اسأل ولكنْ بدون وقاحة أو صراحة.‏

ـ الوزارة يا مولاي؟!‏

ـ انتظر في الخارج فقد يحالفُك حظّي وتكونُ من الفائزين.‏

أشار بطاش فدخل المتسابق الثاني يزحفُ كحلزون سرقوا قوقعته.. وتشبثتْ يده بقصيدة مدح كتبها على جلد غزال يتيم. وحين وصل المتسابق الزّحافُ إلى الحدِّ الفاصل بين الراعي والرعية قبّل الأرض بوله سبعَ مرات.. ثم سأل متوّسلاً:‏

ـ أيسمح لي مولاي بالنهوض قليلاً؟‏

ـ لماذا؟‏

ـ أريد أن ألقيَ بين يديكم قصيدتي ولا يجوزُ أن أذكرَ اسمكم المعّظمَ وأنا أزحف على الأرض.‏

ـ عذر مقبول.. انهض.‏

وما كاد الحراس ينهضونه حتى تنحنح وتأرجح وقال:‏

ـ اسمح لي يا مولاي بأن أنشدَكَ هذه الأبيات المتواضعة، فقد وصلتُ أخيراً إلى حقيقة مؤكّدة تقول بأن جميع الكلمات في كلّ اللغات تعجز عن الوفاء بمدح إصبع من أصابع قدميك الكريمتين.‏

هنا سحب بطاش بغضب شديد قدمه العرجاءَ إلى الخلف وهمّ أن يشير إلى الجلاد فيحذف رأس هذا المتسابق الأحمق ولكنه أكره نفسه على الصبر قليلاً وكان حكيماً في ذلك حين أشرع المتسابق قصيدته وتمايل طرباً وهو يقول:‏

مُرّ ما تشاءُ فتركعُ الأقدارُ‏

وابطشْ فأنت القادر القهّارُ‏

قد طرتَ فوقَ الكون تسمو محلّقاً‏

تهفو إليك الشمسُ والأقمارُ‏

هذي الرقابُ قد انحنْت لك سيدي‏

أنت القويُ وسيفُكَ البتّارُ‏

هنا طارَتْ فكرة حذف الرأس تماماً من رأس الملك.. بل خبط الأرض برجله السليمة وصرخ:‏

ـ الله.. الله..‏

ثم ألقى أمره إلى خازنه بحماس:‏

ـ أعطه من خزانتي ديناراً ذهبياً عن كلِّ كلمة تفوّه بها من تلك الدنانير التي نُقشت فيها صورتي على الوجهين وإيّاك أن تأكلَ عليه حروف الجرّ والعطف كما فعلتَ مع الشاعر الذي هنّأني بقصيدة ألفية بمناسبةِ حلاقةِ شاربي.. وسأطلبُ من الصغيرِ والكبيرِ والقاصي والداني أن يحفظَ هذه الأبياتِ ويغرّدَ بها على مسمعي كلما رآني.‏

ـ والوزارةُ يا مولاي؟..‏

ـ ألا تكفيك الجائزةُ يا طمَّاع؟!‏

ـ المالُ يذهب يا مولاي.. لكنّ الوزارة تعني صُحبتَك ورؤيةَ وجهكَ الكريم ولا ثروةَ في الدنيا تعادل ذلك.‏

ـ أحسنت.. أحسنت.. انتظرني في الخارج فقد يحالفك حظّي وتكون من الفائزين.‏

أومأ بطّاش من جديد فدخل المتسابق الثالث معتمداً بصعوبة على عكّازين حديدين وقد اختفت قدمه اليسرى تماماً والتفّ حولَ أسفل الساق رباط تنزّ منه الدماء.. سار المتسابق بصعوبة يطرق الأرض المرمرية بعكازيه الجديدين وحين لامست عكّازه الخطّ الفاصل بين الراعي والرعية توقّف ولمّا أراد الانحناء أعاقه العكّازان فرماهما جانباً وانحنى حتى لامس أنفه بوز حذائه.. طال انحناؤه ولم تقوَ قدمه اليمنى على حمل جسده فهوى إلى الأرض.. نظر إليه الملك بطّاش بعين الريبة والحذر.. ثم صرخ غاضباً:‏

ـ أين قدمك اليسرى أيُّها المتسابق؟.. جئتنا.. منذُ أيام تمشي على قدمين فما الذي جرى لك؟...‏

ـ أتاذن لي بالكلام يا مولاي؟..‏

ـ أنا الذي أأذن.. انهض..‏

أنهضه الحراس وأسندوه إلى عكازيه.‏

ـ تكلم بحذر وإلا..‏

ـ لقد اكتشفتُ يا مولاي حقيقة مذهلة.‏

- زائدة!‏

ـ ماذا اكتشفت؟..‏

ـ اكتشفت أنَّ قدميّ اليمنى زائدة؟!!‏

نعم .. ألست يا مولاي مثالَنا في الخّلْق والخُلُق؟..‏

ـ بلى أنا المثال المقتدى.‏

ـ وهذا ما فعلتهُ أنا يا مولا ي فقد بترتُ عضواً زائداً من جسدي لأقَاربك في المثال... إذ يستحيل يا مولاي أن تكون أنت على خطأ ونحن على صواب!‏

قهقه الملك منتشياً.. وقهقه بعده جميع الحاضرين حتى الجلاّد.. ثم وقف وانحدر يعرج بحماس فاتحاً ذراعيه مجتازاً الخطّ الفاصل لأول مرة ثم عانق المتسابق وصرخ مبتهجاً:‏

ـ مبروك.. أنت من يستحق وزارتي حقّاً.‏

صفّق الحاضرون وهلّلوا وابتسموا حتى الجلاّد وعزفت فرقةُ القصر موسيقا النصر.. وانطلقت الزغاريد وصدحت الأناشيد.‏

أشار الملك فهدأ كل شيء.. عاد ثانيةً إلى عرشه وأوقف وزيره إلى يمينه.. فكّر قليلاً ثم قال:‏

ـ أعتقد أن وزيراً واحداً لن يكفيني لحكم هذه البلاد ولذلك فإنني آمر بإجراء مسابقة ثانية.‏

في اليوم التالي شوهدت طوابيرُ من الرجال العرجان يتزاحمون على أبواب القصر.. أمّا من آثر الاحتفاظَ بقدمه وعقلهِ فقد انزوى في الأكواخ والمغاور ورؤوس الجبال.. أو اختفى في آبار المخدرات والجنون.‏