دجاج الوزير
دجاج الوزير باب البّراكة الخشبية يُقرع بشدة في ليلة كانونية تجاوزت منتصفها والمكان سفح هضبة في جرود لا زرع فيها ولا ماءَ.. ـ استيقظ يا أستاذ.. الأمر خطير.. فتحتُ الباب فاقتحمتني رياحُ الشمال تمخرُ جسدي المرتجف. ـ ما الأمر يا إبراهيم؟.. ـ شاحنة محمّلة بالدجاج الهندي الأبيض معطلةٌ على الطريق العام. ـ وما علاقتنا نحن؟.. ـ يقولون إنها لسيادة الوزير يا سيدي. وقبل أن يدرك عقلي المرتعشُ حقيقةَ ما جرى رنّ الهاتف بإلحاح وجاءني صوت مدير المشروع مضطرباً مذعوراً. مهندس مروان.. أنت مسؤول منذ هذه اللحظة عن حياة دجاج الوزير. ـ أنا مهندس مدني. ـ لا تتهرّب من المسؤولية.. الرجال الحقيقيون يظهرون وقت الشدائد.. دجاج الوزير أمانة منذ الآن في رقبتك.. واحذر من أن تفطس دجاجة واحدة. أسرعت مع إبراهيم ننحدر في الطريق العام تسوطُنا ريح لئيمة تهبّ من بين الجبال. وصلنا الشاحنة كانت تجثم في الظلامِ بلا حَراك كوحش خائر ويحرسها أربعة غلاظ شداد.. صاح أقصرهم: ـ لماذا تأخرتم؟.. وصرخ أضخمهم وهو يغصّ بدموعه: ـ أسرعوا.. لن يحتمل دجاج سيدي أكثر من ساعة واحدة في هذا البرد. ركضت مع إبراهيم إلى مهجع العمال.. كانوا غارقين في أحلامهم الصغيرة بعد يوم شاق.. أشعلنا الأنوار.. صرخ إبراهيم: ـ هيه.. استيقظوا حالاً.. الأمر خطير. ـ ماذا جرى.. زلزال..؟.. ـ كلا.. كلا.. ـ حريقة... سيول...؟ ـ أخطر.. أخطر.. ـ لقد وقعت الحرب إذن!.. ـ كلا.. كلا.. شاحنة دجاج الوزير معطّلة على الطريق العام.. والدجاج في خطر ما حق. ران الصمت.. نظروا إلينا مشدوهين.. لم أسمح لـهم بالاستفسار.. انتهزت حيرة عقولهم..صرخت: ـ هيا.. فليحمل كلُّ منكم دون إبطاء بطانيته وليتبعني لإنقاذ الدجاج. نهضوا غاضبين وسمعتُهم وهم يتبعونني يشتمون.. جميعَ الكائناتِ ذاتِ الريشِ أو الوبر أو الحوافر أو التي تسيرُ أو تزحفُ أو تطير أو تقفز. وصلْنا السيارة البليدة أمرتُهم أن يحملَ كلٌّ منهم بلطف شديد دجاجتين ويغطيهما ويضمّها إلى صدره بحنان وأن يخاطبهما برقة وابتسامة.. وتمّ حمل جميع الدجاج بسلام إلى مهجع العمال ما عدا دجاجتين خائنتين قفزتا من باب السيارة وانتهزتا ظلام الليل وغابتا في بطن الوادي.. ولم نعثر عليهما رغم الحملة المكثفة التي أمر بها المدير عبد الفتاح خوفاً على الدجاجتين الهاربتين من برد لاسع أو لصّ طامع أو ثعلب مخادع... وباءت المحاولات بالفشل. انتشر الدجاج الناجي في أرجاء المهجع وجاءنا صوت المدير هادراً عبر مكبرات الصوت: ـ هيا أشعلوا جميع المدافئ المازوتية والكهربائية والغازية. وخلال دقائق عمّ الدفء في أوصال الدجاج وانتشرت الدجاجات في المهجع تتهادى بخيلاء مقوقئة باحثة في بين الممرات والأسرة وتتأمّل بين الحين والآخر الوجوه المكفهرة ببلاهة ووقاحة. جلستُ مع العمال عابساً أرمق معهم بحقد أزرق لئيم الدجاج وهو يصول ويجول بحرية وقد يقفز ديك وقح فيزرق فوق أحد الأسرة أو الخزائن وكاد أحد العمال أن يتسبّب في فتنة دامية حين رفس دون قصد كما أدّعى دجاجة نقرتْ بنهم إصبع رجله الجريحة فانقضُّ عليه حراس الدجاج وأشبعوه رفساً ثم أمسكوه من خناقة وهدّدوه بنهاية أجله إن أصاب الدجاجة المرفوسة أيُّ مكروه.. وبعد مفاوضات مضنية وتوسّلات ووعود وتبويس لحى استطعنا بنجاح إنقاذ ذي الإصبع الجريحة من بين أيدي الحراس بعد أن تعهد الرافس بالاعتذار للدجاجة وتقبيلها والدعاء لـها بالسلامة، لكن الأذى المميت لم يصب الدجاجة المرفوسة بل أصاب أربع دجاجات كانت ترقد منذ تشرّف المهجع بقدومها قرب الباب مغمضة العيون لاوية أعناقها مستسلمة للمنية فأسرعنا إليها كالأم الرؤوم وقدمنا لـهما ما نستطيع من طعام وشراب ودواء ودفء ودعاء ولكنها أبتْ إلا أن تفطس غير مبالية بتهديدات الوزير وتوّسلات المدير ورغم حزني الظاهر فقد سخر من سخر وشمت من شمت وحين سألني سيادة الوزير شخصياً بالهاتف عن أحوال الدجاجات أسعفتني عيناي بالدموع وأجبته وأنا أشر ق بدموعي بأنّ الدجاجات لم تمت بل رفعت أرحلها إلى السماء داعية لسيادته بالتوفيق وطول العمر. فاستشف بذكائه اللامع ما جرى واحتمل الفاجعة بصبر عجيب، وشكرني على مشاعري النبيلة وأمرني أن أذبح الدجاجات الأربع على الطريقة الإسلامية فله في لحمها كما تبين لي مآرب نافعة، ودامت سهرتنا الدجاجية حتى الصباح حيث وصلت سيارة نقل جديدة ترافقها سيارة ثانية هبط منها عمال وحراس وأطباء وتمّ نقل الدجاجات الناجية بعد تعقيمها مع جثث الفقيدات الثلاث.. ثم غادَرنا رجالُ الدجاج غير شاكرين: ملاحظة أولى: لم نستطع العثور على الدجاجتين الهاربتين حتى الآن. ملاحظة ثانية: سُمّي المكان الذي تعطلت فيه السيارة. منعطف دجاج الوزير. ملاحظة ثالثة: أُهدي لحم الدجاجات الأربع بالعدل اثنتين لجمعية خيرية واثنتين لكلاب الوزير. ملاحظة رابعة: كانت ليلة الدجاج هي الليلة الوحيدة التي نعمنا فيها بالدفء طوال الشتاء. ملاحظة خامسة: تمنّى كثير منا أن يغدو دجاجاً لدى سيادة الوزير، وتحقق الحلم حين نبت للمحظوظين منهم ريش في رؤوسهم وبطونهم وظهورهم وأعجازهم كما صاروا يبيضون وينقّون ويصيحون بمهارة تفوق الدجاج. |