في هذا البيت، تعيش أسرة الدكتور إبراهيم.. زوجته وأولاده الخمسة الذين تتراوح أعمارهم بين العاشرة والخامسة والعشرين، والدكتور إبراهيم من رجال التربية المعدودين في البلد.. بالإضافة إلى أنه أستاذ بكرسي في كلية التربية بالجامعة.‏

وعلى الرغم من أنه ليس متزمتاً، ولا قاسي الملامح، بل إنه يتحاور مع أبنائه بروح ديمقراطية.. إلا أن هيبته العلمية في المجتمع والجامعة فرضت نوعاً من الحضور المهيب له في البيت، وفرضت بالتالي نوعاً من الطقوس بحيث اعتادت الزوجة، ومثلها الأبناء على عدم إحداث ضجة في البيت، وعلى عدم التخاطب بصوت مرتفع أو التأخر عن مواعيد الطعام أو النوم أو الاستيقاظ، ولهذا يبدو لزائر هذا البيت أنه غارق في الصمت والكآبة، وبصورة خاصة عندما يدخل الدكتور إبراهيم غرفة المكتب ليتابع بحوثه التي يطبعها في كتب تنشر تباعاً، دون أن يكتفي بمهمة التدريس في الجامعة.. هذه المهمة التي قضى فيها ثلاثين سنة من عمره، وتخرج خلالها على يديه عدة أجيال من الطلبة.‏

من هنا، فإن زوجته لم تحاول أن تسأله يوماً عما إذا كان سيتأخر عن موعد الغداء أو العشاء، فقد كان دقيقاً في مواعيده حتى في موعد شرب الشاي أو القهوة مع أفراد الأسرة حيث يناقش مع أبنائه الخمسة شؤون دراستهم وتفاصيل مطالبهم، قبل أن ينصرف كل منهم إلى دراسته، ويدخل هو غرفة المكتب ليتابع ما بين يديه من أبحاث ومشاريع لمؤلفاته التالية:‏

فجأة.. حدث ما يشبه الانقلاب في البيت الهادئ، وذلك مع تركيب هوائي جديد وصحن التقاط المحطات الفضائية. حيث استقبلت الأسرة (الدش) بكثير من الاحتفالية، وأصبحت تتحلق حول جهاز التلفاز بكثير من الفضول مما أحدث نوعاً من الجلبة التي كسرت تاريخ الصمت الثقيل في بيت الدكتور إبراهيم.‏

فوجئت الأسرة بأن الدكتور الجليل لم يعلن استياءه من هذه الحالة الجديدة التي سادت في البيت، بل هو الذي وافق على تركيب (الدش) ودفع تكاليفه، ومع هذا كانت الأسرة تشعر بالحرج خاصة وأنه لم يحاول أن يسهر معها ليلة واحدة أمام الشاشة..‏

كانوا يتحلقون أمام الجهاز بكثير من اللهفة، ويكتفي هو بتناول كتاب من المكتبة يروح يقرؤه في غرفة المكتب منفرداً حتى آخر السهرة..‏

وفي يوم.. تجرأت الابنة الكبرى، منى، فسألت أباها وهي تحاول أن تختار ألفاظها بدقة حتى لا تزعجه:‏

-لماذا لا تتفرج معنا على البرامج الفضائية يا والدي.‏

-هذه البرامج ملهاة يا منى.. تشغل الإنسان حتى عن المطالعة، وهي مجرد برامج للتسلية والإثارة وإضاعة الوقت.. إنها مناسبة لكم أنتم الشباب.‏

-ليست كلها على هذه الصورة.. هناك برامج إخبارية وسياسية، وثقافية، واقتصادية، وحوارات، وندوات، وتعليقات.. إن هذه الشاشة تضع العالم كله بين يديك.‏

-الكتاب هو صديقي الوحيد يا منى، وهو -كما تعلمين- أنه خير جليس ثم ألا ترين أن هذه الفضائيات قد تشغلكم عن دروسكم وواجباتكم وعن مواعيد نومكم الطبيعية؟..‏

-ولكنك مقتنع بوجود هذا الجهاز العصري في البيت، وأنت الذي جلبته لنا..‏

-صحيح.. ولكني تركت لكم حرية تحديد وقت المشاهدة بحيث لا يكون على حساب التأهيل لمستقبلكم..‏

وخرجت منى من مكتب والدها تنقل لاخوتها ما دار بينهما من حوار، فوقعوا في مزيد من الإحراج أمام الموقف الحضاري المتفهم لوالدهم، بحيث لم يعاملهم يوماً بالزجر أو بالقسر، ولهذا وجدوا أنفسهم مضطرين لضغط فترة المشاهدة باستثناء الصغيرة سمية التي أصرّت على أن يكون زمن المشاهدة أمامها مفتوحاً، وهي ترى أن من حقها مشاهدة مسلسل السهرة للكبار، فهي تؤكد أن سن العاشرة يؤهلها لأن تكون من الكبار ومرت الأيام.. والحالة في البيت على ما هي، ولكن الذي بدأ يقلق الدكتور إبراهيم ما يسمعه من زوجته وأولاده على مائدة الطعام وفي جلسة شرب الشاي عن برامج لا يشاهدونها هم، ولكن الجيران والأصدقاء يتحدثون عنها.. برامج يقولون إنها للكبار وهي في واقعها مفسدة‏

للأخلاق والأذواق.‏

وحمدت الأم ربها لأن مثل هذه البرامج لا تبث إلا في وقت متأخر من الليل، وفي هذا الوقت يكون جميع أبنائها قد خلدوا إلى أسرّتهم.‏

كان الحديث عن هذه البرامج في بداية الأمر يسبب للدكتور إبراهيم نوعاً من القلق، فهو يخشى على أبنائه الذي سهر على تربيتهم تربية مثالية، أن يتسرب إلى نفوسهم نوع من الفضول لمشاهدة بعض هذا البرامج، ومن هنا أصبح يصاب بالأرق، وهو يحاول مراقبة غرفة الجلوس في البيت، وهي الغرفة التي تسهر فيها الأسرة أمام الشاشة، ثم إنها في ركن قصي من البيت وقد يتسلل إليها أحد الأولاد في الليل..‏

ومرّ أسبوع وأكثر دون أن يحدث ما يثير الريب، باستثناء ملاحظة زوجته التي كانت تستغرب مكوثه في غرفة المكتب أكثر من المعتاد، وإلى ساعة متأخرة من الليل:‏

-ليس من عادتك أن تسهر إلى مثل هذه الساعة يا إبراهيم‏

-عندي مشروع كتاب مهم أريد إنجازه، وهو يقع في ألف صفحة ويحتاج إلى الكثير من المراجع.‏

-ألف صفحة؟..‏

-أجل.. وأنا أفكر في طباعته على جزئين‏

-. وما هو هذا الكتاب؟.‏

-كتاب نظري جديد في التربية على ضوء المستجدات القائمة في المجتمع العصري الجديد.‏

-لا شك أنك تتعرض فيه لموضوع الفضائيات التي غزت العالم وشغلت الناس عن كثير من الأمور، حتى عن القراءة كما تقول للأولاد..‏

-طبعاً.. طبعاً.. سيكون هناك فصل كامل حول الموضوع.. اسمعي يا بهيرة.. أنا أفكر في التصدي لموضوع البرامج المفسدة التي قلت لي مرة أن جارتنا أم فريزة وزوجها يشاهدانها معاً..‏

-. وماذا ستكتب عنها وأنت لا تعرف عنها شيئاً.. هل ستحاول مشاهدتها والكتابة عنها.‏

-أعوذ بالله.. ماذا تقولين يا امرأة؟ أنا الدكتور، أستاذ الأجيال، أتفرج على مثل هذه البرامج؟ اسمعي.. ما رأيك أن تستجري جارتنا أم فريزة لتحدثك عن بعض ما تبثه هذه البرامج.. أقصد ليس بالتفصيل.. حتى لا تأتي كتابتي عنها من الخيال..‏

-ما الذي دهاك يا رجل؟.. هل تريدني أن أسأل جارتنا مثل هذا السؤال؟.. هل تعلم بماذا ستجيبني؟. ستقول لي: تفرجي عليها بدل أن تسأليني عنها..‏

عند هذا الحد توقف الحوار.. ودخل الدكتور إبراهيم غرفة المكتب وقد تحول القلق الذي كان يشغل باله خشية تسلل إلى مشاهدة مثل هذه البرامج إلى هاجس مسيطر عليه.‏

وفي إحدى الليالي.. استيقظت بهيرة على غير عادتها بعد منتصف الليل وقد شعرت بعطش مفاجئ.. وبعد عودتها من المطبخ سمعت هسيساً من غرفة الجلوس.. تقدمت بهدوء وفتحت الباب قليلاً لترى الدكتور إبراهيم يجلس قريباً من التلفزيون الذي تلتمع عليه الصور والأصوات تصدر منه في حالة متفاوتة بين الهسيس الناعم والفحيح المخنوق..‏

انسحبت بهدوء إلى غرفتها، وعندما مرت بغرفة المكتب كان النور مضاء والباب موارباً.. دفعته بهدوء وأطلت على الغرفة لتجد الكتاب الذي كان يقرأ فيه زوجها، منكباً على وجهه، وكأنه يبكي.‏