محطة القهر في المدينة
محطة القهر في المدينة
1-الإشارة:
تشرق الشمس ضاحكة على الشرفة، وتضحك المرأة لزقزقة العصافير، ترشف قهوتها الساخنة بلذة، وتبصر الرجل على النافذة المقابلة يلوح لها باسما، فتشعر بالأمان بعد سفر زوجها للغربة دون خبر يثلج صدرها المحترق بنار الشوق والحب.
2-اللقاء:
تعتذر المرأة من الضيوف، وتخرج إلى الطريق، تداعب أصابعها أوراق الشجر، وتمزح مع بائع الحليب قليلاً، تبحث عنه في ظلال الشجر، في صدر الليل، لا تراه قريباً كما تراه على النافذة كل صباح، تحضن شجرة كما لو أنها تحضنه بشوق، وتهمس للشجرة (هل اقترب اللقاء؟) وتراه بغتة يدنو، يحمل وردة حمراء عربون محبة وصداقة، تهز رأسها ماطرة دموعها بسخاء يمسحها بيده الدافئة، وتزهر ابتسامة المودة بينهما الحب!.
3-المواجهة:
تقطع المرأة الصلة به، وتوشم ذاكرتها بالنسيان، ويبحث عباس عنها في شرايين المدينة. يوظف حواسه للعثور عليها، يترك وراءه الحوانيت الموصدة، يرهف السمع للأصوات عساه يسمع صوتها مع صوت الحساسين وحفيف الشجر، يعيش حارساً على المدينة وأبوابها المشرعة يدخل زقاقاً آخر، يحدث نفسه: "دخلت فيه قبل هذه المرة!" تهطل نظراته على جسد امرأة تتمدد على الطين، ويسترخي رجل بدين فوقها برغبة جامحة كما لو أنه يسترخي على أريكة مريحة، يقترب عباس منه، يكور الرجل بصاقه، ويبصق عليه، يخجل عباس منه، ثم يغضب، يهجم عليه، يضربه كفاً، يفقد الرجل توازنه، يقع على الطين، وتنهض المرأة، تصلح ثوبها وشعرها المشعث، يلهث الرجل، يئن، ويلتفت عباس إلى المرأة المذعورة، يجرها من يدها وهو يقول:
-هيا نهرب من هنا.
ويركله عباس على مؤخرته الملوثة بالطين، ويهربان على درب واحد في الظلام..
4-الاختفاء:
يجلس عباس في الغرفة، يسرح شعره، ويرتب قميصه المهمل، بينما تمشي المرأة إلى مرآة معلقة على الجدار، تتأمل وجهها الأصفر (إني مريضة) تقول لنفسها وتشرب الشاي الساخن على دفعات متتابعة، تدور نظراتها على السقف (كيف أهرب منه وهو يراقبني باستمرار، سيحبط محاولة الهرب..) ويغفو عباس على الكنبة في نوم عميق، تهرب المرأة من الباب وتتوارى على الدرب بانتصار!
5-محطة القهر في المدينة:
تخطو على الرصيف، تراقب الفجر وهو يطلع فوق البيوت الفقيرة راسما سعادة الحياة، ويشاهدها الحارس الليلي بعد انتهاء مهمته، يرى ثوبها ملوثاً بالطين، يخشى أن يراها الزوار بهذه الصورة القذرة، يحرث القلق حقل الطمأنينة برأسه بسكة الظنون، يسير إليها قائلاً:
-ما هذا اللباس؟
-هذا الواقع
"سافر حمل زوادته وقال:
-سأعود ومعي المال الكثير. قلت له:
-أحضر معك ما يجبر الضلع الكسير.
ورحل مثل سحابة المطر، تركني شجرة مقطوعة من غابة، ولم يرسل خبرا بعد سفره، فصار القهر يكنس فيّ لهفة الحب المتصاعدة.."
-أنت مجنونة!
-لا
-تخالفين قوانين السياحة التي تنص: المحافظة على جمال المدينة، ثم يستدير إلى الخلف ويصيح بعض المارة:
-تعالوا يا ناس إلى المجنونة.
ويأتي المارة نحو الحارس، يضحكون بسذاجة، وينظرون إليها بهزء، تتضايق المرأة منهم، تبصق عليهم، ثم تجتاز الإسفلت، ويعدو الحارس وراءها كالزوبعة، ويرجمها الصغار بالحجارة تخاف تصرخ وتركض، يغرق رأسها بنهر الهواجس، تشتم المدينة وأسيادها الذين تعيش الخيانة في عمرهم كومضة الحلم الجميل وتقرر الهرب من المدينة، تقصد الفلاة الرحبة، تحس رطوبة على جبينها الأسمر.. تبسط يدها أمام بصرها الناعس (الدم راية الثأر عند القبائل!) تمسحه بثوبها الوسخ، وتركع على الأرض، تنشد الراحة، تغفو في حلم، يحضر من الغربة، يطوقها بذراعيه القويتين ويقول:
-لا تحزني يا وحيدة
-رجعت من السفر؟
وتلتصق به كثيابه الدافئة، تحمد الله على سلامته، تجهش باكية، ثم تنهض خائفة من النوم.. حيث ينأى الحلم عنها كالسفينة المغادرة الميناء، تراه يقلب رأسها ويهتف:
-ودعنا المحطات والسفر.
تتعدل على الثرى، ترمقه بحنين يهدل فيها كحمائم الأبراج الريفية، ترهل وجهه وغزرت التجاعيد عليه، فتغيرت ملامحه كثيراً، تسأله:
-من أنت؟
-أنا المسافر
-وعدت إلي؟
-عدت إليك
-أنت هو!؟
"لا أصدق بصري.. تسافر والشباب يحاكي فيك حسن الربيع.. وتعود شيخاً!"
-نعم
"الذي سافر بدون مال، عاد بمال، وعاد بسؤال: ماذا جلبنا معنا غير الهموم؟" وتمر يده على الردف الموجع من إصابة الحجارة، فيستيقظ الأمان في صدرها قبل أن يجبر الضلع الكسير..